الخميس، 20 ديسمبر 2012

سماح سماح سماح

سماح 

بقلم /عاصم عبد الماجد
أمسكت بعضادتي الباب بقوة راجيةً إياه ألَّا يطردها .. لكنه استمر يدفعها إلى الخارج بقسوة .. التفتت نحو شقيقته - صديقتها القديمة - تستعطفها بدموعها :
- إلى أين أذهب وليس لي في الدنيا أحد ؟!
- إلى الشارع الذي التقطناك منه .
كانت الكلمات قاسية .. والنظرات قاسية .. والقلوب أيضاً كانت قاسية .. لكن قسوة الضياع الذي كان ينتظرها أنستها كل قسوة أخرى ، فعادت تستعطفه أن يبقيها في البيت ولو كخادمة.. لم يجبها بشيء ، وإنما أجابتها شقيقته:
- (وليد) سيذهب هو الآخر معك .
كانت قواها قد خارت فانكفأت لوجهها وهي تسمع هذه الإجابة .. رفعت رأسها لتنظر إليه وكأنما تأمل في أن تلمح على وجهه بادرة استنكار لما قالته شقيقته ، ولكن حتى هذه لم تجد لها أثراً في ملامح وجهه القاسية.. وبعد لحظة كان وليد بجوارها يجلسان على عتبة الدار الذي أغلق بابه وراءهما بعنف .
* * * *
بدلاً من أن تفكر (سماح) فيما سوف تفعله الآن وجدت نفسها تتذكر ما فعلته في تلك الليلة البعيدة. عندما أتت إلى هذه الدار فلم تجد أحداً فجلست في ذات الموضع حتى أتى وجيه وشقيقته .. ليلتها رحب بها أشد الترحيب .. أخبرت شقيقته أن كل شيء قد انتهى وأنها حصلت فعلاً على الطلاق.. هنأتها (سوزان) لأنها على حد قولها قد عتقت نفسها . فوجئت بها تمد يدها لتنزع النقاب عن وجهها .. لأنه على حد قولها رمز للقهر الذي كانت تعيش فيه، وكان يمارسه زوجها السابق.
* * * *
أفاقت على صوت (وليد) وهو يسألها:
- أماه ماذا سنفعل الآن ؟!
ربتت على ظهره بحنو وهي تجيبه :
- سنسافر يابني .
- إلى أين ؟!
- إلى أقاربنا .
- لقد كنت تقولين لي ليس لنا فى الدنيا أحد غير أبي .
- لنا يابني أقارب ستعرفهم الليلة .
- 2-
أطلق القطار صافرته إيذانا بالرحيل .. أحست براحة عجيبة عندما دارت عجلاته وبدأ الرصيف يجري مبتعداً ، ومن ورائه راحت المدينة الصغيرة تبتعد رويداً رويداً كلما ازدادت سرعة القطار .. خمسة عشر عاماً مضت منذ أتت في رحلة معاكسة تغيرت فيها أشياء كثيرة.. تغير وجه فتى أحلامها الذي أتت إليه.. تغيرت شقيقته (سوزان) .. تغير الزمان .. هي نفسها تغيرت كثيراً .. نعم تغيرت كثيراً .. هكذا قالت لنفسها وهي تتذكر أن وجهها عار وشعرها عار .. نظرت إلى ساقيها ونظرت إلى ذراعيها في حياء وكأنها تكتشف للمرة الأولى أنها متبرجة !! عندما أتت إلى هنا لم تكن هكذا . الشيء الوحيد الذي لم يتغير في الرحلتين أنها قطعت كل واحدة منهما وهي مطلقة .. لكنها اليوم قد تعلمت درساً بل دروساً لم تكن تعرفها قبل خمسة عشر عاماً.. آه من تلك الدروس وما أفدح الثمن الذي دفعته لكي تتعلمها .. تمتمت في أسى :
- كنت في غنى عن هذا كله .
* * * *
سالت على خدها الدموع .
- لم تقولي لي من هؤلاء الأقارب ؟!
تلعثمت قليلاً قبل أن تجيب :
- ستعرفهم بعد قليل يابني .
أشاحت بوجهها بعيداً عنه كي يكف عن أسئلته .. لكنه لم يفعل وإنما باغتها بسؤال غريب :
- إذا كان أبي قد طردنا فهل سيكون هؤلاء الأقارب أفضل منه ؟! وهل سيكون أرحم بنا من أبي ؟!
لم يستطع تكملة كلامه فقد خنقته العبارات فانخرط فى بكاء عنيف .. احتضنته أمه وهي تردد دون وعي:
- نعم أفضل من أبيك وأرحم من أبيك.
ترددت كلماتها فى جنباتها .. راحت تدور في عقلها وهي تهدهد قلبها .. كانت كل جوارحها تنطق بها .. تخيلت أن صوت عجلات القطار وصوت صفير الرياح وأن كل شيء يردد حولها:
- (أفضل من أبيك.. وأرحم من أبيك .)
* * * *
أطلق القطار صافرته بغتة ، فدوت في أذنيها كالرعد .. تساءلت لماذا تركته وذهبت إلى (وجيه) ؟! عضت شفتيها بقوة .. أرادت أن تلعن سوزان لأنها هي التي زينت لها ترك زوجها السابق ( رضا ) كي تقترن بشقيقها ( وجيه ) .. رفعت يديها لتدعو عليها وعلى شقيقها، كادت تقول: (اللهم العن من كانت السبب) .. لكنها تراجعت عندما تذكرت أنها نفسها كانت السبب ، نعم هي التي سعت للقاء ( سوزان ) .. طأطأت رأسها وهي تتذكر أن زوجها لم يأذن لها بالذهاب إلى حفل الزفاف الذي تعرفت فيه على (سوزان) ورأت هناك شقيقها .. هي التي ذهبت دون إذن زوجها ومن هنا بدأت علاقتها بتلك المرأة.. ومن ليلتها بدأت (سوزان) تحيك حولها خيوط دهائها ومكرها .. هزت رأسها وهي تردد في أسى :
- ليتني لم أعصه .. ليتني لم أذهب .
الآن فقط أدركت أن كل ما وقع كان عقوبة لها على مخالفة أمر زوجها .
انفتح أمامها باب الرجاء عندما تذكرت أن باب التوبة مفتوح وأن كل شيء سينتهي إذا تابت إلى ربها توبة نصوحاً.. بكت هذه المرة بكاء أمل ورجاء .. التفتت إليه لتسأله:
- في أي شهر نحن يا بني ؟!
عندما أجابها راحت تعد ما بقي على خروجه من السجن.. فبعد أن تزوجت ( وجيه ) بأيام جاءتها شقيقته بجريدة الأهرام وأشارت إلى الخبر المنشور في الصفحة الأولى وهي تقول لها :
- الحمد لله ربنا أنقذك من مستقبل مظلم .
كان فيها خبر اعتقال زوجها السابق .. أحست بالإشفاق عليه فهي تعرف أنه لا يستحق شيئاً من ذلك كله.. تنهدت بارتياح عندما تأكدت أنه لم يبق على خروجه إلا أسابيع قليلة.. فتح عمر الباب ووقف متعجباً لتلك المرأة وذلك الشاب الصغير وهما يطرقان الباب بعد منتصف الليل...
• لم تستطع أن تخفى ابتسامتها عندما لمحت شبهه الواضح بأبيه.. لم تتمالك نفسها ففتحت ذراعيها لتحضنه .. تراجع مدهوشاً .
فبادرته قائلة :- ألا تعرف والدتك ؟! ألست عمر رضا ؟! أجاب متلعثماً :- بلى أنا عمر رضا فمن أنت ؟! آلمتها كلمته .. أنا أمك . قال في تعجب :- لكن ليس لي أم .. أحست بنصل سكين يغوص في صدرها من قسوة ما قاله، ودت لو أنها ماتت بالفعل ليصير بلا أم قبل أن تسمعها من فمه.. معذور يا بني أنا الذي أجرمت في حقك .. صدقت يا بني لو كنت أمك لسألت عنك ولو مرة طيلة خمسة عشر عاماً .. بان الاضطراب والخجل عليه بينما كان وليد يراقب ما يحدث وكأنه غير مصدق لما يدور حوله .. مرت لحظات صمت قطعته بقولها :- هل تأذن لنا بالدخول يا بني ؟! لم يدري ما يقول فأفسح لهما الطريق دون أن يجيبها

-3-
زلفت إلى الداخل مسرعة ومن خلفها ولدها .. أحست لأول مرة هذه الليلة بالطمأنينة .. جالت ببصرها يميناً وشمالاً.. بعد لحظات أدركت أن شعوراً غريباً قد انتابها.. إنها الغربة التي عاشتها منذ خرجت من هذه الدار قبل خمسة عشراً عاماً .. دون أن تدري وجدت نفسها تتوجه نحو غرفة نومها .. مدت يدها لتفتح الباب لكنها توقفت عندما تذكرت أنها لم تعد غرفتها ..استدارت نحو ولديها .. نظرت
إلى عمر وهي تسأل :- هل تأذن لنا بالجلوس .. قبل أن يأذن لها جلست بينما ظل الفتيان واقفان ..سألته في انكسار :- ألم تر صورة والدتك من قبل ؟! هز رأسه نافياً .. ألم يحدثك والدك عنها ؟! نكس رأسه وهو يجيبها:- قليلاً.. أدركت أنه يعرف بعض الحقيقة .. نعم يابني أنا التي تركته .. كان رفيقاً بي .. كان أيضاً كريماً .. يومها قال لي :- أخاف عليك الدنيا وزينتها .. لم ألتفت لكلماته واليوم أدركت معناها بعد أن دفعت الثمن غالياً .
* * * *
دعتهما للجلوس في مواجهتها .. ثم راحت تحكي قصتها ، كانت تعرف أن القصة قاسية وأن التجربة قاسية وأنهما إن عرفا الحقيقة ربما يكون حكمهما عليها قاسياً .. ولكنها كانت تريد أن تنتقم من نفسها .. نعم تريد أن تنتقم من نفسها .. لا بد أن يعرفا الحقيقة كي يحتقرانها ويحتقرا الدنيا التى أغرتها ومهما كان حكمهما عليها قاسياً فلن يكون أقسى مما فعلته هي في نفسها وزوجها وولدها الذي تركته قبل أن يتم عامه الأول .
* * * *
عندما انتهت من سرد حكايتها كان ثلاثتهم يبكون.. تمالكت نفسها وسألته والآن هل تأذن لي يا عمر أن أقيم هنا ؟! تقدم إليها وأمسك بيدها ليطبع عليها قبلة .. أخذته في حضنها واختلطت دموعها بدموعه كما اختلط في قلبها مشاعر الأسى .. انتبهت على صوت وليد:- لو كنت مكانه ما قبلتك ها هنا .. ولو كنت مكان أبيه لطردتك.. لم تغضب لكلماته ولا لنظراته القاسية التى تشبه نظرات أبيه وجيه .. بل أجابته في هدوء :- لا يا بني ، لا أظن أنه يريد أن ينتقم مني .. سألها في تحدٍ لماذا ؟! لأنه كان يقول إن الداعية لا ينتقم لنفسه قط..
التفتت ناحية عمر وسألته :- هل تسمح لي أن أدخل غرفة نوم أبيك ؟! هز رأسه موافقاً .. دخلت في سرعة .. فتحت دولاب الملابس .. تهلل وجهها فرحاً عندما وجدت ملابسها في مكانها .. وبعد لحظات كانت تقف أمام المرآة بجلبابها وخمارها وقد غطت وجهها بالنقاب .. ثم راحت تحدث نفسها قريباً سيأتي وعندما يراني بهذه الهيئة سيسأل من هذه ؟! سأقول :- سماح سماح سماح ....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق