الخميس، 2 مايو 2013

تفتيش 
ــــــــــــــــــــــ
معتقل الفيوم الصحراوي عام 1996 ...تقرير لأمن الدولة يرصد الحالة النفسية المرتفعة للمعتقلين ....امن الدولة تصدر قرارات صارمة بالتالي 
1- مصادرة جميع المصاحف من المعتقلين ومنع دخول أية مصاحف لهم 
2- منع دخول أي ملابس او اغطية للمعتقلين خلاف الخاصة بالسجون والمعروفة برداءتها الشديدة 
3-اختصار وقت زيارة الاهل إلى اقل من خمس دقائق
4- مصادرة زيارات الاهل بما تحمله من اطعمة ومشروبات وملابس وخلافه باستثناء وجبة واحدة يتم اعطائها للمعتقل في كفيه بدون اي اكياس او اطباق
5- مصادرة جميع المصابيح الكهربائية من الزنازين وإبقائها مظلمة تماما بدون اي مصدر للإضاءة
بعد هذه الاجراءات بشهور قليلة
شاويش يجد ورقة مكتوب فيها بعد الاشعار التي تحث على الصبر والثبات فيقدمها لضابط امن الدولة ..الذي قام بإبلاغ ادارة الجهاز على الفور
وفي صباح اليوم التالي ..تقوم مصلحة السجون بحملة تأديبية على معتقل الفيوم الذي يضم قرابة الـ20 الف معتقل اسلامي
وقتها كنت حديث الاعتقال ..حين ايقظني احد الاخوة وهو يقول "تفتيش يا اخي ..ربنا يستر" ..نظرت حولي فوجدت الجميع في حالة من الارتباك والحركة السريعة ...هذا يخفي ملزمة ورقية صغيرها تحتوي بعض جزاء من القران الكريم ..والأخر يقوم بغسل الحائط من بعض الايات التي كتبها على الحائط عن من يحفظها حتى يستطيع هو حفظها ...وثالث يخفي شفرة حلاقة مهربة نستخدمها جميعا للنظافة الشخصية ..ورابع استقبل القبلة ورفع يديه للسماء يطلب الرحمة من الله تعالى .
لم اكن ادرك سر هذا القلق والذعر حتى فتحت باب العنبر الذي يضم 18 زنزانة ...كان اول ما سمعته صوت كلاب تنبح بشراسة ..ثم بدء العساكر يطرقون ابواب الزنازين بعصيانهم بقوة لإحداث حالة من الرعب في قلوب المعتقلين المفزوعين اصلا
كان العساكر يسبون ويتوعدون ويهددون وكأنهم على ابواب معركة كبري
قام احد الضباط بالمرور على جميع الزنازين لإلقاء التعليمات ...كانت ثلاث جمل يكررها امام كل زنزانة ..الكل يخلع ملابسه تماما باستثناء الشورت الداخلى ...كله يعصب عينيه عينه جيدا ...كله يقف وشه للحيطة في الجهة المقابلة للباب

ثم فتحت أول زنزانة في العنبر سمعت الضابط يصرخ: كله يطلع بره ..بره بره يا ابن كذا وكذا انت وهو ..بعد هذه الجملة بثواني سمعت صرخات جماعية رهيبة لم اسمعها من قبل ..ارتفعت صرخات المعتقلين فشقت عنان السماء واختلط معها نباح الكلاب وصوت الصواعق الكهربائية ..كانت لسعات العصيّ اكبر من تختفي وسط هذا المزيج المرعب ..نظرت في وجوه اخواني في الزنزانة فوجدتها مرسومة بالرعب والفزع ... الالسنة كلها تلهث بالدعاء ..كان قلبي يخفق بسرعة غريبة ..احاول السيطرة على اعصابي فأفشل ..شعرت بألم حاد في معدتي ..وقفت امام دورة المياه في طابور من خمسة معتقلين ..شعروا بسوء حالتي وصغر سني وقتها فأدخلوني ..في الحمام حاولت ان اسيطر على نفسي وان اتنفس بعمق ، ان اصم اذني عن هذه الاصوات القاتلة التي تزلزل قلوبنا منذ اكثر من نصف ساعة متواصلة
اختفت الاصوات فجأة ..خمس دقائق ..ولد في قلبي امل ان يكون الطغاة قد رحلوا ... ثم بدء نفس الصوت الوحشي يصرخ من بعيد ..كله يطلع بره ..بره يا ولاد كذا..وبدء الصراخ من جديد يعلوا ..كان الصراخ الاول خاص بأهل الزنزانة الاولى فقط ..والثاني بأهل الزنزانة الثانية وهكذا ...كل زنزانة تفتح بمفردها ..يخرج منها قرابة العشرين معتقل فتنهال العساكر والكلاب والضباط والمخبرين عليهم ضربا وصعقا وحرقاً بالسجائر ونهشا من الكلاب لمدة تتراوح بين 30 او 40 دقيقة كاملة ثم يسحبون ويلقون في الزنزانة التي لم يعد فيها شيء سوى الارضية الخراسانية الغارقة في الزيت والصابون وبقايا الطعام والملابس
ساعات طويلة وثقيلة مرت وأنا اقف على قدمي معصوب العينان ومجردا من ملابسي ووجهي للحائط بانتظار دوري في السلخانة البشرية ..كان الهول اكبر من الشعور بالتعب كان الهول اكبر من الشعور بالعري ..كان الهول أكبر من الشعور بالجوع والعطش ..كان الهول اكبر من الحياة نفسها ...
وسبحان الله في هذا الهول المستعر كنت اجد كفاً حانية تربط على كتفي قائلة "اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ "
كان الجميع يعلم اني أصغرهم سنا ..وأحدثهم سجنا وهذه اول مرة اتعرض فيها لمثل هذا الموقف الذي تكرر عليهم مرات عديدة من قبل .
بدء الصراخ يقترب شيئا فشيئا وأدركت اني على بعد ساعة واحدة فقط من الدخول في هذه التجربة القاسية المفزعة .
كشفت العصابة عن عيني وقلت ولاخواني ..كيف نستسلم لهذا ؟ ..انتركهم يقتلونا بهذه الوحشية دون ان نقاوم ..اذا كنا سنتعذب وسنجلد فلماذا لا نشتبك معهم فنضرب ونضرب !؟
اثارت هذه الكلمات استيائهم بشدة ..قال احدهم يا اخي لو فعلنا هذا سنقتل وسيقتل كل من في المعتقل ..احدهم حاول تخفف قلقي فقال : بص يا خالد انت فاكر لما كنت في المدرسة وتطنش الواجب وتروح تأني يوم وانت عارف ان الاستاذ هيضربك ..قلته ايوه ..قالي .. اعتبر الي هيحصل كمان شوية حاجة زي كده وعلقة تفوت ولا حد يموت ...لم اكن اصدق اني استطيع الضحك في مثل هذا الموقف لكني بالفعل ضحكت وضحك الناس حولي ..حقيقة كانت ضحكاتهم مريرة تشبه البكاء ..بدء الكل يبتسم في وجه الاخر ابتسامة متكلفة تحاول جاهدة اضفاء الطمأنينة وإخفاء الفزع الذي يغلى في الصدور
انتقل الصراخ إلى الزنزانة المجاورة تماما لنا ..كان اشد فزعا ورعبا وقسوة مما سمعناه من قبل ...الكل انهمك في الدعاء والذكر
صرخ الصوت الوحشي في زنزانتنا ..شد الغماية على عنيك يا ابن كذا انت وهو ... كان السباب يؤلمني اكثر من صراخ المعتقلين المعذبين رددت في نفسي بل"أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ"
فتح باب الزنزانة وصرخ الصوت القاتل مرة اخرى بره يا ابن كذا بره ..بره ..
وضع كل منا يده على كتف اخيه وخرجنا في طابور واحد بمجرد اقترابي من باب الزنزانة هوت على ظهري عصى فشعرت انها شقته نصفيين ..توقف لبرهة مشلولا فدفعني احد الاخوة امامه وقفنا جميعا امام الزنزانة وجهنا للحائط وظهورنا للجنود الذين الهبوها ضربا بالسياط والعصيّ .
كانت السياط تنهال على ظهورنا تزاحمها العصّي والصواعق الكهربائية وإعقاب السجائر المشتعلة ..فقدت الشعور بالزمن والواقع وبكل شيء باستثناء الالم الرهيب

كان هناك شاويش يمسك كلبا ضخما ويمر به علينا فردا فردا يسأل المعتقل :أسمك ايه ..فيجيب المعتقل باسمه ..فيرد الشاويش لأ ... أنت اسمك فيفي عبده ..ها ..اسمك ايه ؟ ثم يغمز الكلب فيقفز على ظهر المعتقل بمخالبه الحادة .
صعقت من الموقف .لم اصدق اذني ان هذا يحدث .. صرخ احد الشباب بجواري مباشرة والكلب ينهش ظهره ..اسمي محمــــــــــــد ... أسمى محمـــــــــد كان الشاويش يقسو عليه وهو يجيب محمـــــــــــــــد ان شاء الله ...محمــــــــــــــد ان شاء الله .
كان يبكي بحرقة وهو ينطق باسمه ويقدم المشيئة استعانة بالله و رجاءً ان يثبت قلبه
بكيت وأجهشت في البكاء لحال اخي ...كان الشاويش ميت القلب يصرخ فيه كل مرة: أسمك ليلي علوي يا ابن الزانية ..كان العسكر قد تحلقوا علي هذا المعتقل بكل ما يملكون ..وهو يصرخ تحت يديهم وأرجلهم وعصيهم وكلابهم ..محمــــــــــــــــــد ان شاء الله ..محمـــــــــــــــــــــد ان شاء الله ...
وجدتني تلقائيا اصرخ بأعلى صوتي ...يا رحمـــــــــــــــــن يا رحمــــــــــــــــــــــــن ....يا رحمــــــــــــــــــــــن .. كنت اصرخ رغما عني ..فزع الجنود واحسست بارتباكهم وسمعت الضابط يزعق هات الحلاق لأولاد الكلب دول ..تقدم الشاويش بكلبه مني وقال: قول يا ابن كذا ان اسمك المومس فلانه - أسم ممثلة مشهورة بالعري والفاحشة-
كان لساني يصرخ رغما عني يا رحمــــــــــــــــن يا رحمـــــــــــــــن ..يا رحمــــــــــــــــــــــــــــن
اقترب مني شخص وصفعني على ظهري بقوة وقال اجلس ..جلست وأنا اشعر بمكينة الحلاقة تأكل شعري من المنتصف وترسم صليبا على راسي فقط
مر الضابط خلف بالصاعق الكهربائي وسألني عندك كام سنة ..قلت 19 سنة ..قال مين الي بيأذن للصلاة في العنبر؟..أجبت معرفش ..صعقني في ظهري بقوة ثم مضي ..
امسك جندي بيدي وقدمي والقاني داخل الزنزانة ثم اغلق الباب
رفعت العصابة عن عيني ونظرت فوجدت جميع اخواني ملقون على الارض الخراسانية ودمائهم تنزف وجروحهم تثعب ..حلقوا لحاهم جميعا ورسموا صلبان على رؤوسهم
كانت الاجساد زرقاء ودامية ..الجميع مطروحون على الارض بلا ادني قدرة على الحراك ..لا يتحرك فيهم سوى السنتهم التي ما تزال تلهث بذكر الله ... قام احد الاخوة إلى دورة المياه وجاء بجردل كبير مملوء بالمياه وألقاه علينا وقال" نعيماً يا رجاله"
انفجر الجميع بالضحك الهستيري ..علق احدهم قائلا ..الا قولي يا اخويا ..هو انا كشفت ولا لسه ؟
نظر اخر أليّ وقال ..عشان تبقه تعمل الواجب بعد كده ..ضحكنا كما لم نضحك من قبل
وحين وضعت يدي على وجهي كنت احاول ان اتغلب على دمعتي الساخنة لكنها أبت على الا ان تزرف رثاء على خيرة شباب مصر وما يحدث لهم في معتقلات مبارك لأنهم فقط قالوا "ربي الله "

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق