الاثنين، 5 ديسمبر 2011

مقال رائع للشيخ على الدينارى الى ابناء الجماعه الاسلاميه



بقلم /على الديناري
إخواني الكرام:
أذكركم بما كنا نقوله سويا ونتصبر به في محنتنا.. كنا نقول:
إن هذه الأيام لها ما بعدها.. وأن القدر قد ألقى بنا في أتون هذه المحن لأجل حكم كثيرة يريدها الله تعالى.. من هذه الحكم أن نتعلم ونتربى ونتدرب على مبادئ هامة لا غنى عنها في طريق الإيمان.
لقد أكدت لنا المحن أن هناك صفات وخبرات كثيرة لا يمكن أن يمضى المؤمن في طريق الإيمان إلا بها.
كنا نشعر أن بعض الدروس إجبارية لا مفر منها!
وكلما حاولنا الهروب منها جاءت بنا الأقدار من جديد إلى فصل من فصولها القدرية لنتعلمها!
مثال ذلك درس "لا مفر من التعايش مع الخلاف"!
تذكرون كم كان كل منا يحاول أن يسكن مع من يحب أو مع من يتفق معهم فكريا ً؟!!
وكنا ننجح أحيانا في الخروج من الزنازين التي نختلف مع الإخوة فيها.. ولكن بعد قليل يفرض علينا القدر العودة إلى نفس الزنزانة التي دعونا الله أن يخرجنا منها فأخرجنا!!
نعود فنقول:
سبحان الله.. أنى هذا؟!!
لم نكن نعلم أن حكمة الله تعالى تريد التربية على مبدأ هام !
هذا المبدأ شق علينا أن نتعود عليه طواعية.. فجاءت الأقدار لتمرننا عليه اضطرارا !
إنه مبدأ الخبرة في التعامل مع من نختلف معهم.
وقد اكتسبنا والحمد لله في هذا الباب عدة قواعد أهمها:
التفريق بين الخلاف الفكري والخلاف المعيشي.
وعدم إقحام الخلافات الفكرية في أمور المعيشة حتى لا تفسد علينا الحياة.. فالخلاف حول أمور المعيشة سهل الحل.. أما إذا اعتبرناه خلافا ً فكريا ً بين الجماعات.. فقد أصبح معقدا ً صعب الحل.
منعنا المناظرات الفكرية في السجون حتى لا تؤثر على علاقاتنا.. وخالفنا في ذلك غيرنا.. وكل الذين خالفونا وأصروا على التناظر عادوا إلى رأينا فانتهوا عن المناظرات والمنازلات الفكرية بعد أن أفسدت عليهم الحياة.. ولم يتمكنوا من بيان الحق الذي أرادوه.
وتعلمنا كيف نضيق الخلاف فنجعله في حدوده ولا نوسعه.
تعلمنا أن حسن المعاملة والتخلق بأخلاق الإسلام وأداء حقوق المسلمين أساس يمهد لحل الخلافات أو على الأقل التعايش معها.
وتعلمنا كيف ينحى المسئول انتماءه جانبا عندما يصبح مسئولا ً عن أكثر من فصيل.. فهو مسئول عن الجميع.
وتعلمنا أن ولاءنا للجماعة لا يعني إلغاء ولائنا للمسلمين عامة.. فلكل مسلم حقوق الإسلام التي لا يمنعه منها عدم انتمائه لجماعتنا.
وتعلمنا أن بيان الحق لا يعنى سوء الأدب والخلق خصوصا مع العلماء وأهل الفضل والسبق.
وتعلمنا أن نعرف لأهل السبق والفضل منزلتهم سواء اتفقنا معهم أو اختلفنا.. ولذلك كان كبار الدعاة إذا نزلوا السجون وجدوا راحتهم في زنازين الجماعة الإسلامية.. لأن شبابها تربوا على توقير الكبير مقاما وكذلك سنا.. وكانت الزنازين قد اتفقت على إعفاء من تجاوز سن الأربعين من أعمال الخدمة اليومية. 
وتعلمنا أن الجماعة كلما اتسعت وكبرت يجب أن تزيد قدرتها على الاستيعاب والاحتواء والتحمل.
تعلمنا الاعتراف بالخطأ ـ إذا وجد ـ وأنه أقصر طريق لحل الخلاف.
فرضت علينا أقدار الله أن نتعامل مع أصناف مختلفة من البشر مع من نحب ومن نكره.. مع من نتفق معهم ومن نختلف.. مع المؤمنين ومع الظالمين.. ولم يكن أمامنا من خيار إلا التعايش والمسياسة والتحمل وإيتاء كل ذي حق حقه ومراعاة حق الله في معاملته.
تعلمنا أنه لا مفر من التعايش مع الناس حتى مع من نكره ومن نختلف.. وأن الإقصاء أو المفارقة ليست حلا ً.. فمن نفارقه اليوم نلقاه غدا ً.. ومن نقصيه اليوم تمكنه الحياة من إقصائنا غدا ً.
ـ فرضت علينا الأقدار أوضاعا ً لابد فيها من القياس الدقيق المتجرد للمصالح والمفاسد قبل الإقدام عليها.. وإلا فالمفاسد فادحة.
طال بنا البلاء وطال واشتد ظلامه فانتظرنا وشغفنا بأي خبر يلوح فيه شعاع الأمل ولو من بعيد.. والتمسنا الأخبار.. ورصدنا تصريحات الوزراء وتحليلات الساسة الكبار.. وكلما تعلقنا بقشة من هذا غرقت فلم تزدنا إلا يأسا من كل الأسباب.. فتعلمنا أن التعلق بغير الله ضياع.
تذكرون مواسم الإفراجات وكم كان بعض الإخوة ينتظر ليلة المولد النبوي انتظار الفرج.. وتمر الليلة فلا يفرج عنه فتهوى به الأرض فكنا نتواصى ألا نتعلق بسبب مهما كان.
سلبتنا أقدار الله كل شيء.. وجربنا الحياة مع العدم التام لكل شيء.. وعشنا حياة الإنسان البدائية.. حتى نمنا على الأرض بلا أي حائل.
وأكلنا على الأرض كذلك بلا أطباق ولا أي حائل!  
وحددنا وقت الفجر من الأفق والنجوم !
ونسى بعضنا في أي قرن هم !
وخلعنا أسناننا بقطعة حديد !
وتداوينا بما نجد أمامنا وبالرقية !
واستخدمنا الريح في نقل الرسائل !
واستخدمنا الشمس للتسخين والهواء للتبريد !
تعلمنا أن الإنسان يمكنه أن يتعايش مع أصعب الظروف إذا توفرت الإرادة.. ويستطيع أن يستغنى عن كثير من أعراض الدنيا ولا يضره ذلك شيئا ً.. وكثير من الأعذار وهم وليست أعذارا ً حقيقية للتقصير في حق الله.
تعلمنا أن وعد الله حق " لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ".
كان البلاء يشتد وحلقة الكرب تضيق وتضيق.. والأذى يتطور ويتضاعف حتى أصبح كل يوم أسوأ من أمسه وأخف أذى من غده المنتظر.. فنبحث عن الفرج فإذا بالقرآن يكرر ويؤكد.. ولا يكتفي بالتأكيد.. بل يحلف أنه قريب " فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً" " سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً" " فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ".
ثم عشنا أيام الفرج وتحقيق الوعد الذي وثقنا فيه فيا لها من روعة لا يمكن وصفها.
ويا له من انتصار لليقين وللثقة يهز القلب فرحا ً وحبا ً لمن صدق وعده سبحانه " وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ".
لقد أصرت الشدائد على ألا ترحل قبل أن تترك فينا بصمات عميقة وعبرا لا تنسى منها:
تعلمنا ما هو الإيمان؟!!
وفهمنا وكأننا لم ندرس من قبل أبدًا ما معنى أن الإيمان هو تصديق القلب بالغيب؟!!
نعم تعلمنا ذلك عندما كانت كل الأسباب حولنا تدعونا إلى اليأس.. وكنا في كل يوم بل في كل ساعة نرى ألف دليل على أنه لا فرج ولا نجاة ولا يسر ولا عودة للحياة ولا مخرج ولا إفلات من قبضة الظالمين.. بل قد سلمنا ربنا لهم يفعلون بنا ما يشاءون إلى ما لا نهاية والعياذ بالله.
ولكن إيماننا وحده هو الذي كان يصرخ في أعماقنا:
كلا بل فرج الله قريب.. قريب.
وأنشدنا في أشد أيام الكروب:
فرج الله على الأبواب                  يا بشرى أهل الإيمان
يوشك يطرقها كي تفتح                   ولقد سطع بنور دان
فرج الله قريب حقا                      يدنو إن دنت العينان
ومع العسر أتى يسران
وأقسمنا ونحن في أشد ظلمات البلاء والشدائد:
أقسمت بالله العظيم ستفرج          كل الشدائد والأسير سيخرج
وحدا ً بنا يقيننا أن ننظر إلى المستقبل فنرى زوال هذه الشدائد والفتن وبقاء غنيمتها لكل كريم حر:
كم فتنة شنت بكل جيوشها         بشكوكها أوهامها أحزانهـــــــــــــا
مرت على جبل اليقين أبادها         ومضى الكريم الحر يحصد غنمها
وما كان مع قلوبنا من دليل سوى أن الله تعالى قال ووعد.. ورسوله صلى الله عليه وسلم بشّر وأكّد.
ليس هناك أي دليل أو شبه دليل أو قرينة غير ذلك!
كانت كل جوارحنا في صف واحد.. أعيننا التي ترى.. وآذاننا التي تسمع.. وعظامنا التي تتألم.. وأمعاؤنا التي تتلوى.. وجلودنا التي تشتكى.. وحتى عقولنا التي تستنتج.. وكل جارحة تقاسى الكرب كانت تهتف باليأس وموت الأمل ومعها ألف دليل.
وكان القلب في الصف المقابل وحده وما معه من دليل سوى تصديقه بوعد الله ليس إلا.
والحرب بين الفريقين كانت سجالا ً كرا ً وفرا ً.. وغارات.. وغارات مضادة.. وحصارا ً ومخرجا ً من الحصار.. وهجوما ً ودفاعا ً.
ولكن تأييد الله تعالى ونصره وفتحه كان للتصديق واليقين. 
كان البرد يحالف الجوع.. ويقويهما المرض.. والضعف.. وشبح الموت.. ويشاركهم الحزن والهم والضيق والغم.. وينضم إليهم الانقطاع عن الأهل وعن الحياة.. ويقود ذلك كله الإذلال والإهانة وإهدار الكرامة وضياع المستقبل.
كل أولئك كانوا جبهة واحدة متحالفة تصارع الإيمان بكل قوة وتحاول الإجهاز عليه! أو حتى تزحزحه.
أما الشيطان فقد كانت مهمته شن الغارات المتلاحقة مستعملا ً دخان الوساوس وريح الهواجس ونيران الحزن وحصار الهم والغم.. ومحاولة التسلل واحتلال مركز القيادة وهو القلب.
لكن الإيمان كان يقاوم وحده ويصارع بمفرده كل هؤلاء وأكثر منهم بكثير على كل الجبهات !!
وعند ساعة الصفر.. نزل الفرج " حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا".
جاء الفرج ليكون مددًا يؤازر الإيمان.. ويقطع الشك.. وينصر اليقين.
تعلمنا أنه لا توجد شدة لا نهاية لها.. فقد تكفل الله بالفرج واليسر مع العسر " فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً" " سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً".
تعلمنا أن ندور مع الحق حيث دار.. وأنه مهما طال الزمن فلن يصح إلا الصحيح.. وأننا إذا حاولنا تمرير الخطأ وإغفال الصواب وهربنا من تكلفته ومضينا في طريق آخر.. فمهما طال مسيرنا لابد أن نعود إلى نقطة الصفر وهى وضع القدم على طريق الصواب.. ولكن بعد أن ندفع الثمن غاليا ً.
تعلمنا أن الحق أغلى وأعلى من الأشخاص مهما علوا.. فلا نبرر خطأ الأشخاص بإبطال الحق وإهدار المبادئ.. فالأشخاص الذين حرصنا على تبرير خطئهم يموتون أو يتغيرون ويتحولون ويبقى الحق وتبقى المبادئ.
تعلمنا أن نقيس الناس بحسناتهم وسيئاتهم معا ً.. فقد تجاورنا بل تكاشفنا في حياتنا الخاصة بتفاصيلها.. ووجدنا أنه لا يوجد إنسان معصوم من الخطأ حتى وإن تمنينا له العصمة والكمال.
كما وجدنا أنه ما من إنسان إلا وله حسناته ومبادئه الكريمة مهما كانت سيئاته.
تعلمنا أن المبالغة في وصف الشيوخ والعلماء تضرهم ولا تنفعهم!.. وفهمنا قول النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه ما لقي أحداً قيل عنه واشتهر إلا ووجده أقل مما وصفوه إلا رجل واحد.. وأن المبالغة تجعل الناس يتوقعون في الشيخ أشياء فإذا لقوه فلم يجدوا ما توقعوا سقط من نظرهم!.. ولو لم تكن هذه المبالغة لكان أفضل له وللناس.
تعلمنا أنه لا عصمة لأحد إلا الأنبياء.. وأنه لإكمال إلا لله وحده.. وأن لكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة.
وأن كبوة الجواد لا تفصله من صف الجياد.. وأن هفوة العالم لا تخرجه من دائرة العلماء.. وإلا فلن نجد على الأرض
كبوة الجواد لا تفصله من صف الجياد..
 وأن هفوة العالم لا تخرجه من دائرة العلماء..
 وإلا فلن نجد على الأرض رجلا صالحا ولا
قدوة يقتدي بها. فلا نشترط في أهل الفضل
 الكمال من كل جانب.. وإنما يقاس الإنسان بما
 يغلب عليه.. فمن غلب فضله فهو من أهل الفضل
 ونقتدي به ونأخذ منه ما أحسن فيه ونترك ما أساء
رجلا صالحا ولا قدوة يقتدي بها.
فلا نشترط في أهل الفضل الكمال من كل جانب.. وإنما يقاس الإنسان بما يغلب عليه.. فمن غلب فضله فهو من أهل الفضل ونقتدي به ونأخذ منه ما أحسن فيه ونترك ما أساء.
تعلمنا أهمية القيادة.. وأن أفرادا ً بلا قيادة جسد بلا رأس وشتات وضياع.. وسمعنا الواهمين الذين كانوا يريدون استئصالنا يقولون بعد اليأس:
مشكلتنا أننا نصارع جماعة تؤمن بوجوب الإمارة.. وكلما قضينا على قيادة أوجدوا غيرها.
تعلمنا أهمية الجماعة بل ضرورتها في إيمان العبد وتقواه لله.. ورأينا أثرها في الثبات على الحق وقت الفتن والشدائد.. وفهمنا أقوال النبي (صلى الله عليه وسلم) مثل "الجماعة رحمة والفرقة عذاب" و"إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية" أو الشاردة و"يد الله على الجماعة".. فهمناها عندما رأينا واقعا مصير من يشرد. 
تعلمنا أنه لا يوجد في الدنيا ما يستحق الحزن عليه ولا الأسى من أجله.. لأننا فقدنا كثيرا ً من الشهداء الأعزاء.. فوجدنا في كتاب ربنا: " لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ".. وسلبنا كثيرة بعد العطاء فواسانا  قول ربنا: " لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ".
تعلمنا أن الصراع بين الحق والباطل جولات.. والعبرة بآخر جولة يوم العرض على الحق العدل سبحانه.
وأن الباطل مهما انتفش فهو ضعيف في قرارة نفسه ولكنه ينتفش (عقدة نقص).
وأن الضعيف قوى بالحق حقا ً.. ورأينا المحبوس حافيا وعاريا وجائعا ومريضا أقوى من سجانه.. والقوى ضعيف هزيل إذا كان على باطل.
تعلمنا خطر الشائعات وهدمها في الجماعة.. حتى وإن كانت سارة.
تعلمنا أن حسن الخلق يستأثر بخيري الدنيا والآخرة معا ً.. ورأينا كيف كانت القلوب تهفو إلى أهل الخلق والفضل وتفضلهم على أهل الكلام وعلى أهل الخبرة.. وحتى على أهل العلم!
وتعجبنا كيف يتقدم صاحب الخلق على كل هؤلاء إذا فقدوا الخلق!
نعم تعجبنا عندما رأينا القلوب تلتف حول الأمي الحليم المتواضع.. وتنفض عن الأستاذ الجامعي الغضوب المتكبر.. ومن هنا تعلمنا أن القيادة موهبة وفن أكثر منها علم وقدرة على الخطابة.
تعلمنا أن لا نقيم الأخ المسلم بحنجرته ولباقته.. وإنما بقلبه وتقواه.. فكم رأينا حناجر ذهبية ذهبت مع أول نذير بالشدة.. وكم من أشعث أغبر لا يؤبه له ثابت صادق.
تعلمنا أن الناس معادن.
ورأينا وعايشنا معادن الناس.. وكيف لا وقد عشنا الشدائد والشدائد تعرى الإنسان تماما وتسلبه كل ما يمكن أن يدعيه أو يلبسه على زور.
نعم.. الشدائد تجبر كل إنسان على أن يتخلى عن كل مبدأ عاش يتغنى به.. ولكنه لم يكن من أصله ولا من شيمته.. وذلك لأن الثبات على المبدأ له ثمنه الباهظ وتضحيته المكلفة التي لا يقدر عليها إلا أصحابها.
الشدائد أطلعتنا على الإنسان.. وهو في أعلى درجاته.. كما كشفت لنا الإنسان وهو في أخس وأسفل دركاته.
رأينا أناسا ً كلما اقتربنا منهم ازددنا لهم حبا ً واطلعنا منهم على رائع جديد من أخلاقهم وسجاياهم.
رأينا الإخوة يحمى بعضهم ظهور بعض من السياط.
رأينا من يمتنع عن الطعام والشراب شهرا كاملا ً ويأبى أن يستأثر دون إخوانه بطعام.
عشنا مع الذين تقاسموا كل شيء.
عشنا مع الذي كانت تأتيه الحوالة من أهله بثلاثمائة جنيه شهريا فيتقاسمها مع إخوانه ويتساوون جميعا ً.. ليصبح نصيبه منها عشرين جنيها مثلهم جميعا ً!
عشنا مع الذين خلعوا غياراتهم لإخوانهم وبقوا بلا غيارات.
عشنا مع الذين كانوا يخدمون إخوانهم حتى يغشى عليهم من التعب.
عشنا مع مرضى يخدمهم أخفهم مرضا حتى يغمى عليه من المرض.
ورأينا الثبات والتحدي بالإيمان.
ساوموا أحدهم على الخروج ليعالج فيحافظ على الربع رئة الباقية فرفض.
وقع كثيرون مكرهين على وثائق الطلاق لنسائهم اللاتي أرسلنها مكرهات.
قضى بعضهم في التأديب ستين يوم شتاء ليتوقف عن دروس الإذاعة فلما عاد إلى زنزانته عاد إلى الدروس.
عشنا أروع وأسمى قصص الحب بين الإنسان وأخيه.. الحب الذي يعنى المقاسمة والإيثار والفداء.
كان الطعام يفيض في بعض الزنازين ـ أحيانا ًـ.. رغم أننا جميعا ً في مجاعة!!
لاحظت في أي يوم نرفع الأطباق وبها بقايا؟ وجدتها الأيام التي يأتي فيها الطعام ناقصا ً جدا ً.. في هذا اليوم كلهم يقوم ليترك الفرصة لأخيه!!
كنا نعظ بعض الإخوة موعظة صعبة جدا ً..  تدرى ما موضوعها؟
كنا نعظه أن لا يظلم نفسه في حقه من الطعام حتى لا يقع مريضا بيننا !!   
تعلمنا أن الله تعالى يختار لعبده الأصلح له.. وأن اختيار الله للعبد خير من اختياره لنفسه.
وكثيرا ما كان أحدنا يتمنى شيئا ً ويتلهف عليه ثم يظهر له أنه لم يكن خيرا له "وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ".. وكثيرا ما كان يكره مكانا أو شيئا ثم مع الأيام يظهر له أن البقاء في هذا المكان أفضل له " وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ".
وكم وصلت لكل منا رسالة مفادها: لا تقلق نحن أولى بك منك !
وأخرى مفادها: أرفع يدك عن هذا الأمر فقد دبرناه لك من قبل أن تفكر فيه!
لقد كنا جميعا نتصور تصورات مختلفة للخروج من محنتنا.. وكنا نتمنى أن يتم الفرج بهذه الطريقة أو تلك.. ولكننا فوجئنا بمخرج لم يكن يخطر على بال أحد.. وقد كان أكرم وأعظم وأتم من كل ما تمنيناه.
تعلمنا دور التربية وأهميتها.. خصوصا في الشدائد والمحن.. وأن العبرة ليست بكثرة الأتباع والمؤيدين والأشياع.. ولكن بكيفية تربيتهم وإيمانهم وأخلاقهم وتقواهم لله.. وقلنا:
لو أمكننا الله تعالى فسنهتم الاهتمام الأكبر بالتربية.. لأننا ذقنا الأمرين من الإخوة الذين لم ينالوا حظا ً من التربية في المساجد ولم يخالطوا إخوانهم ويتعلموا منهم وتأثير ذلك على الجميع.
تعلمنا أن التربية تكون بالصحبة والمعايشة.. وليست بمجرد قراءة الكتب.. وكم عانينا من الذين تربوا على الكتب وحدها بلا مربٍ مصاحب.
تعلمنا أهمية اختيار المدعوين.. وخصوصا في مراحل البدايات التي تتكون فيها الركيزة التي ستتحمل الدعوة.
تعلمنا العدل فقد أذاقنا الله مرارة الظلم وبشاعته.. ورأينا كيف يعكر الظلم حياة الإنسان كلها ويفسد عليه أي فرحة ويطفئ عليه نور عقله وابتكاره ويكسر نفسه.
ومن هنا كرهنا الظلم وكرهنا الظالمين.
كل ذلك قدره الله علينا حتى ننفر من الظلم ونكره أن ننضم إلى الظالمين.
إن من أعظم نعم الفرج أن فرق بيننا وبين الظالمين.. لأن رؤية الظالم تضيق الصدر.. فإذا أقبل الظالم أقبل معه الاكتئاب والضيق والهم والغم والكراهية.. ولذلك كنا نؤمن على دعاء موسى عليه السلام " فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ".. وعلى دعاء أصحاب الأعراف " رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" فصحبتهم وحدها عذاب.
يروى أن أحد الخلفاء سلم ابنه لعالم ليؤدبه ويعده للخلافة بعده.. فكان آخر لقاء له أن ضربه ضربا ً شديدا ً بلا سبب.. فلما مات الأب وتولى الابن الخلافة زاره العالم ووصاه بأن لا يظلم أحدا ً وذكره بهذه الضرب وقال:
إنما ضربتك يومها حتى تذوق الظلم فلا تظلم.
تعلمنا أن الجماعة الظالمة مصيرها الزوال حتما ً.. بل الدول الظالمة ليست كبيرة على الزوال.. ودرسنا أسباب هلاك الأمم في القرآن فوجدنا أكثر الأسباب ذكرا ً هو الظلم "وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا" " وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ".. فالعدل يحفظ الجماعة من الزوال.
تعلمنا أن طلب المستحيل يضيع الجهد في عناء بلا ثمرة.
تعلمنا أن مصلحة الإسلام فوق مصلحة الجماعة.. وهيبة الإسلام فوق هيبة الجماعة.
وأن السعي لمصلحة الإسلام وتقديمه على مصلحة الجماعة يحقق المصلحتين معا.
بينما الإصرار على التضحية بمصلحة الإسلام من أجل الجماعة يضيع الاثنين معا.
تعلمنا أن مصلحة مصر من مصلحة الإسلام فبرفعتها يرتفع.. وبعزها يعز.. فمصر رائدة لغيرها من الدول.
وأن حب الأوطان لا ينافى الإيمان بل هو منه.. فكم أحب النبي (صلى الله عليه وسلم) مكة هو وأصحابه.. ثم دعا الله أن يحبب إليهم المدينة كحب مكة أو أشد.
تعلمنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (بئس مطية القوم زعموا).. فكم من شائعة يتعامل معها الإخوة على أنها حقيقة.. فإذا جئت تتحقق منها لم تجد لها دليلا ًإلا: "قالوا" و:"سمعت".. وخصوصا في الاتهام بالعمالة.
تعلمنا أن الخلاف شر.
والتنازع زوال للنعمة.
وتلقينا في هذا الدرس تجارب وعانينا آلاما ً كثيرة.. وما تنازعنا على شيء إلا وانتزع منا وبسرعة غريبة.
نزلت علينا في سجن الوادي الجديد حملة مفاجئة كانت شديدة قاسية أخذت الكتب.. فلما انتهت قام أحد الإخوة وأخبرنا أنه بعد الفجر أي قبل الحملة بساعات كان الإخوة في زنزانة قد تنازعوا على الكتب.
تعلمنا أن العمل بلا علم مشقة وعناء.. وفى النهاية زلل وأخطاء.. وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة).
تعلمنا أن الدنيا لا تدوم على حال ومن طلب دوامها يطلب السراب.. لا الرخاء يدوم ولا الشقاء يدوم.. الدنيا يومان يوم حلو ويوم مر.. وكلاهما سيمر.
تعلمنا ذلك واقعا ً حيا ً.. فكم عشنا في السجون ظروفها المعتادة واستطعنا أن نتعايش مع هذه الظروف.. ثم فتحت علينا الدنيا رويدًا رويداً حتى إذا وصلت إلى حد ما انقلبت الأمور وعدنا إلى الصفر من جديد.
وقد تكرر معنا هذا المنوال كثيرا ً.. حتى تيقنا أن دوام الحال من المحال.
لكل شيء إذا ما تم نقصان      فلا يخدعن بطيب العيش إنسان
هي الأيام كما شاهدتها دول     من سره زمن ساءته أزمـــــان
هي كما قال عنها خالقها جل وعلا: " إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ".
وخشينا أن نكون من الذين قال تعالى فيهم " فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ".
تعلمنا كل هذا وأضعاف أضعافه.. ولو أننا جلسنا الآن نتذكر المواقف والأقدار لاكتشفنا من حكمة الله في تلك المواقف ما يذهل العقول.
فالآن أيها الإخوة الكرام:
بالتأكيد لم يكن هذا التدريب والتمرين والتعليم شيئا ً عشوائيا ً ولا هباء ً.. وإنما كما أكدنا في الرسالة الماضية هو إعداد للعمل في سبيل الله من نوع ما قال الله تعالى لموسى عليه السلام " وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي" " وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي".
فما أعظم فائدة هذا الرصيد الذي اكتسبناه إذا استخدمناه في العمل في سبيل الله.. وما أشد الخسارة إذا ضيع أحدنا  ذلك أو سخره في مجال آخر غير المجال الذي أعده الله من أجله.
فهل من العقل أن يتدرب الإنسان ويتعلم ويتحمل في سبيل ذلك المشقات.. ثم إذا جاء وقت العمل بما علم سخر علمه ذلك كله واستخدم هذا الرصيد والحصاد والزخم في لا شيء حتى نسيه وضيعه؟!!
إن زكاة هذا الفضل الذي آتانا الله تعالى هو الإنفاق منه في العمل في سبيل الله.
وإن شكر هذه النعم هو تسخيرها في طاعة الله تعالى.
إن من أشد مكايد الشيطان.. ومن تلبيس إبليس أن يصرف المؤمن عما كلفه الله به.. وأعده له.. ويسره من أجله.. ويشغله بغير ذلك.
صحيح أننا خرجنا فوجدنا وقتنا كله يذهب في واجبات شرعية ومسؤوليات والتزامات علينا.. ولكن حديثنا هنا عن حال القلب واستعداده.. ففرق بين من رغب في الدنيا وركن إليها واستبدلها بالآخرة والسعي لها.. وبين من اضطر كارها ً وقلبه يناشد ربه أن يجعل له مخرجا ً حتى يلحق بالركب.. فهذا الثاني لابد أن يجعل له مخرجا.. كما رأينا كثيرا ً من إخواننا الذين انشغلوا كرها ً فيسر الله لهم وجعل لهم مخرجا ليستعملهم لدينه.
اللهم استعملنا لدينك ولا تستبدلنا آمين
الاثنين الموافق
10-1-1433هـ
5-12-2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق