الجمعة، 21 سبتمبر 2012

كتاب الحج من عمدة الفقه للشيخ العلاّمة محمد المختار الشنقيطي - المدرس بالحرم النبوي-


كتاب الحج من عمدة الفقه للشيخ العلاّمة محمد المختار الشنقيطي - المدرس بالحرم النبوي-

قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى : [ كتاب الحج والعمرة ] :
الشرح :

بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ، ومن سار على سبيله ، ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد :

فيقول المصنف -رحمه الله- : [ كتاب الحج والعمرة ] : يشتمل هذا الكتاب على بيان الركن الخامس من أركان الإسلام وهو ركن الحج إلى بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا ، ومن عادة العلماء من المحدثين والفقهاء أن يختموا أركان الإسلام ببيان أحكام الحج وأحكام العمرة ؛ وذلك لأن النبي رتّب هذه الأركان فجعل خاتمتها الحج ؛ كما في الصحيح من حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله : (( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا )).

ومناسبة كتاب الحج لكتاب الصوم واضحة ، وقد رتبها المصنف على ترتيب السنة .

والحج في لغة العرب : القصد . قال بعض العلماء : القصد إلى كل شيء حج .

وقال بعض أئمة اللغة : بل إنه يختص بالقصد إلى الأشياء المعظمة ، وأيا ما كان فإن أصل معناه القصد .

وأما في الاصطلاح : فهو القصد إلى بيت الله الحرام والمناسك بأفعال مخصوصة ونية مخصوصة. وأما العمرة فإنها في لغة العرب : الزيارة ، وأما في اصطلاح العلماء فهي زيارة البيت بطوافه والسعي بين الصفا والمروة .

وهاتان العبادتان متلازمتان ، ولذلك يقول العلماء : الحج نوعان : حج أكبر ، وحج أصغر. فالحج الأكبر هو الحج إلى بيت الله الحرام ، وأداء المناسك من : الوقوف بعرفة ، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، والمبيت بمنى ، وهذه كلها متعلقة بالحج الأكبر ، وأما بالنسبة للحج الأصغر فهو العمرة ؛ وقد أشار الله عز وجل إلى ذلك بقوله سبحانه : { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر } فبين أن الحج فيه أكبر وفيه أصغر .

والأصل في مشروعية الحج دليل الكتاب والسنة والإجماع :

أما كتاب الله ؛ فإن الله تعالى يقول : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } .

وأما السنة فأحاديث ، منها : حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- المتقدم حيث عدّ النبي الحج إلى بيت الله الحرام ركنا من أركان الإسلام .

وكذلك ثبت في الأحاديث الصحيحة ، منها : حديث سؤال الأعرابي النبي عن فرائض الإسلام ، وذكر منها الحج .

وأما الإجماع فقد أجمع العلماء -رحمهم الله- على فرضية الحج، وأنه ركن من أركان الإسلام. وأما العمرة فإن العلماء -رحمهم الله- اختلفوا فيها على قولين :

قال بعض العلماء : إنها واجبة ، وهذا هو مذهب الحنابلة والشافعية في المشهور وقال به بعض أئمة السلف -رحمة الله على الجميع- .

ومنهم من قال : إنها سنة مستحبة وليست بواجبة كما هو مذهب الحنفية والمالكية وقول عند الشافعية ورواية عند الحنابلة ؛ والدليل على وجوبها أن الله تعالى قال : { ولله على الناس حج البيت } فأمر عباده بالحج إلى بيته ، وبيّن في كتابه أن الحج حج أكبر وأصغر، فدل على وجوبهما ، ولم يأتِ دليل بإخراج العمرة من هذا الأصل .

وأما السنة فإن النبي قال لأبي رزين العقيلي -رضي الله عنه وأرضاه- وقد سأل النبي في فريضة الحج حيث أدركت أباه شيخا كبيرا لا يستقيم على الراحلة . فقال له : حج عن أبيك واعتمر ، فقد صحح هذا ا لحديث غير واحد من أئمة الحديث كالإمام الترمذي -رحمه الله- وغيره .

فقوله عليه الصلاة والسلام : (( حج عن أبيك واعتمر )) فأمره أن يعتمر؛ فدل على وجوب العمرة .

وقد قال كما في حديث عائشة الحسن في السنن عنها -رضي الله عنها- أن النبي لما سألته أَعَلَى النساء جهاد ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (( عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة )) وبناء على ذلك فأصح قولي العلماء هو وجوب العمرة .

وأما الذين قالوا بعدم الوجوب فقد قالوا إن الكتاب نص على وجوب الحج ولم ينص على وجوب العمرة .

والجواب عن ذلك ظاهر حيث إن الحج شامل للأصغر والأكبر كما دلت عليه نصوص الكتاب وكذلك الأحاديث التي وردت بالأمر بالحج يندرج تحتها العمرة .

وأما بالنسبة لقوله -رحمه الله-: [ كتاب الحج والعمرة ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالحج إلى بيت الله الحرام والعمرة ، وكلتا العبادتين عظيم عند الله أجرها عظيم ثوابها ؛ وقد قال في الحديث الصحيح : (( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه )) ، وقال : (( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) وهما من أجلّ ما يتقرب به العبد إلى ربه سبحانه وتعالى، وما من مسلم يخرج من بيته من أجل أداء هذه العبادة حجا كانت أو عمرة فقصدهما لوجه الله إلا كان أجره وثوابه على الله عز وجل ، ولذلك عُدّ الخروج في الحج من أعظم الخروج ثواباً وأجراً كما أخبر النبي في فضائل الأعمال أن منها الحج المبرور ، ولا يكون الإنسان بارا في حجه إلا إذا استجمع أسباب البر التي أعظمها الإخلاص لله عز وجل ، وطيب المكسب ، وتحري السنة وهدي النبي في حجه ، فهو منذ أن يتجرد من ثيابه ، ويتجرد من مخيطه ، ويلبس ثوبيه ، يتأمل السنة الواردة عن النبي يحج كحجه ، ويعتمر كعمرته ، حتى كأنه يرى رسول الله أمامه في طوافه ، وفي سعيه ، وفي مناسكه كلها ، فإذا وُفّق للكسب الطيب ووُفق للإخلاص لله عز وجل ووفق لتحري السنة كان حريا أن يرجع إلى بيته بالحج المبرور، وبخاصة إذا اتقى الله في سمعه وبصره ولسانه فلم يرفث ولم يفسق ولم يعتد حرمات الله عز وجل في إخوانه المسلمين .

يقول المصنف -رحمه الله-: [ كتاب الحج والعمرة ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالحج والعمرة .

قال رحمه الله : [ يجب الحج والعمرة مرة في العمر ] : يجب الحج والعمرة مرة في العمر لأن النبي لما سأله الصحابي وقد قال : (( أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا )) فقام له الأقرع بن حابس وقال: يا رسول الله ، أفي كل عام ؟ فسكت النبي - ثم قال: (( أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا )) فقام الأقرع وقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فقال : (( ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم )) وقال في اللفظ الآخر : (( لو قلت : نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم ذروني ما تركتكم )) الحديث .

فقد قال : (( لو قلت نعم لوجبت )) أي لوجب عليكم أن تحجوا كل عام ، فدل على أنه لا يجب الحج إلا مرة واحدة ؛ لأنه لم يقل : نعم -صلوات الله وسلامه عليه- .

فالواجب مرة في العمر، وهذا من رحمة الله بعباده ، ولو تصور المسلم أن الحج واجب في كل عام على المسلم لنظر في ذلك من المشقة والبلاء للناس ما الله به عليم .

قال رحمه الله : [ على المسلم ] : على المسلم : لأن الكافر إذا حج لا يصح حجه ؛ قال تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } فالكافر عمله قد أحبطه الله فعليه أولا أن يُسْلم ثم بعد ذلك يخاطب بفعل الحج ويصح منه حجه بعد إسلامه ؛ إذاً الإسلام شرط لوجوب الحج وإجزائه وصحته ، فلا يجب الحج على غير الكافر أصلا حتى يحقق أصل الإسلام بالتوحيد. وكذلك أيضاً لا يصح من الكافر لظاهر القرآن كما ذكرنا ، ولا يجزيه لو حج الكافر بكفره لم يجز عن حجة الإسلام بل الواجب عليه أن يعيد حجه ؛ وقد صح عن النبي أنه بعث مناديه ينادي في الحج: (( أن لا يحج بعد العام مشرك ، وأن لا يطوف بالبيت عريان )) ، فدل على أن الحج لا يصح من الكافر .

قال رحمه الله : [ العاقل ] : العاقل : وهذا أيضا شرط وجوب وصحة وإجزاء ، فلا يجب الحج على مجنون ؛ لأن النبي قال : (( رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم المجنون حتى يفيق )) حتى يفيق من جنونه وهذا الحديث عن عائشة وعلي -رضي الله عنهما- حديث صحيح .

وأجمع العلماء على عدم وجوب الحج على المجنون .

قال رحمه الله : [ البالغ ] : البالغ : وقد تقدم معنا في الصوم من هو البالغ ، سواء كان بلوغه بالسن من الرجال والنساء وهو بلوغ خمس عشر سنة ، وبينا دليل ذلك ، أو بالإنبات وبينا دليل ذلك ، أو كان بالحيض والنفاس كما هو خاص بالنساء ، فإذا بلغ فإنه يجب عليه الحج ، ويجزيه الحج إذا أداه في حال بلوغه ، ويصح الحج من الصبي فلو أن صبيا أحرم بالحج ولبى في الحج أو العمرة وأدى مناسك الحج والعمرة ؛ صح منه ذلك ؛ لأن النبي لما أحرم عام حجة الوداع وبلغ فج الروحاء وهو ما يسمى اليوم ببئر الراحة اعترضه ركب فقال : من الركب ؟ قال: المسلمون، ثم سألوا من الركب ؟ قالوا : رسول الله وأصحابه . فرفعت امرأة صبيها إليه فقالت : يا رسول الله، ألهذا حج ؟ قال : (( نعم ولك أجر )) .

فبين أن الحج يصح من الصبي ، والصبي ينقسم إلى قسمين : إما أن يكون صبيا دون التمييز، ومثل أن يكون له أربع سنوات أو ثلاث سنوات أو حتى يحمل كالصبي الذي يحمل كذي السنة أو السنتين فإذا كان كذلك فهو دون التمييز، وإما أن يكون مميزا يعلمه أبوه أو وليه فيؤدي المناسك. فأما بالنسبة للصبي غير المميز؛ فإنه يحرم عنه وليه ؛ سواء كان رجلا أو امرأة ، فيجوز للأم أن تلبي عن صبيها وصغيرها، ويجوز للأب أن يلبي عن صبيه وصغيره ، ثم إذا أحرم الأب أو أحرمت الأم عن الصغير والصغيرة قام بمناسك الحج بالنية عنه ، وطاف به ولو محمولا يطوف عن نفسه، ثم يطوف عنه وسنبين هذا ، ثم إذا حصل إخلال من هذا الصبي لزم الولي في ماله ولا يلزم في مال الصبي ؛ لأنه هو الذي أحرم .

وأما إذا كان الصبي مميزا ؛ فله حالتان : الحالة الأولى أن يرغب الصبي بنفسه ، فيحرم من نفسه ويطلب ذلك ، فإذا حصل منه إخلال وجب ضمانه في ماله كما لو ارتكب جناية ، وقد سوي بين حق الله وحق المخلوق في الضمانات .

وأما إذا كان وليه هو الذي أمره وهو الذي ألزمه ؛ فمذهب طائفة من العلماء بوجوب الفدية على الولي والإخلالات عليه .

أما من حيث صحة الحج فالحج والعمرة يصحان من الصبي سواء كان مميزا أو كان غير مميز ، ثم إذا كان مميزا علمه والده الأذكار والأفعال ودله عليها وأرشده إليها، وقام بها الصبي بنفسه أصالة إلا أن يعجز فيوكل فيما تدخله الوكالة . فبيّن رحمه الله أن البلوغ شرط من شروط الحج ، والمراد بهذا الشرط أنه شرط إجزاء ووجوب وليس بشرط صحة ، وعلى هذا فإنه يصح الحج من الصبي ولا يجب عليه .

قال رحمه الله : [ الحر ] : الحر ضد المملوك ، وعلى هذا فإنه إذا حج المسلم البالغ العاقل الحر صح حجه وأجزأه عن حجة الإسلام .

وأما إذا كان مملوكا فقد نصت نصوص الكتاب والسنة على أنه ملك لسيده ، مأمور بالقيام بحقه؛ ولذلك قال تعالى : { عبدا مملوكا لا يقدر على شيء } ووصفه بهذا الوصف وقد ذكرنا غير مرة أن الإسلام ضرب الرق دون نظر إلى جنس ولا لون ولا بلد ، وإنما أوجب الرق على من كفر بالله في الجهاد الشرعي بإذن ولي الأمر، فإذا ضرب الرق على هذا الوجه فقد ضرب على من يستحقه ؛ لأن الآدمي كرمه الله وشرفه ، فإذا كفر بالله ووقف في وجه الإسلام حاملا سلاحه مقاتلا للمسلمين نزل إلى مقام أحط من مقام البهيمة ؛ كما قال تعالى : { إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل } فقد كفر نعمة سيده ومولاه ، فحكم الله عليه بالرق ، وفي هذه الحالة يكون ملكا لسيده كما قال تعالى : { وما ملكت أيمانهم } وعليه فإنه لا يخاطب بالحج ولا يجب عليه إلا بعد أن يعتق .

قال رحمه الله : [ إذا استطاع إليه سبيلا ] : إذا استطاع إليه سبيلا : هذا الشرط الأخير وهو شرط الاستطاعة ؛ والأصل فيه قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } أي استطاع سبيلا إلى البيت الحرام وأداء المناسك في الحج والعمرة .

وأجمع العلماء -رحمهم الله- على اعتبار شرط الاستطاعة من حيث الأصل ، وعلى هذا فلو كان فقيرا أو ليس عنده زاد أو ليس عنده نفقة الذهاب إلى مكة ؛ فإنه لا يجب عليه الحج ، وهذا شرط وجوب ، وعلى هذا فلو أنه حج وهو غير مستطيع فتكلف المشقة وحج من عند نفسه
فإنه يصح حجه ويجزيه ، ولا يعتبر موجبا لعدم صحة حجه .

فأصبحت شروط الحج منها ما هو شرط صحة وإجزاء ووجوب وهو شرطا الإسلام والعقل ، ومن الشروط ما هو شرط وجوب وإجزاء وهو الحرية والبلوغ ، ومنها ما هو شرط وجوب فقط وهو النفقة والاستطاعة . هذا حاصل ما ذكره العلماء بالنسبة لشروط الحج، وقد أجملها المصنف -رحمه الله- وبينّها بهذا الترتيب : الإسلام ، ثم البلوغ ، ثم البلوغ، ثم الحرية ، ثم الاستطاعة .

وقسمها العلماء إلى هذه الثلاثة الأقسام : شروط وجوب وصحة وإجزاء ، وشروط وجوب وإجزاء ، وشرط وجوب ، وهو شرط الاستطاعة كما ذكرنا .

قال رحمه الله : [ وهو أن يجد زادا وراحلة بآلتهما ] : وهو أن يجد زادا وراحلة بآلتهما : إذا كان يشترط في وجوب الحج على الإنسان أن يكون مستطيعا ، فالاستطاعة أن يجد زادا ومركوباً بآلة المركوب وآلة الزاد لإصلاح الطعام ونحو ذلك ، فإذا تيّسر له ذلك فقد وجب عليه الحج ، وعلى هذا ينظر في الاستطاعة إلى الآلة التي يصل بها كالدابة والسيارة ، وهذا مذهب الجمهور -رحمهم الله- .

ومن أهل العلم من قال: لا تشترط الدابة والركوب ، بل إنه يجب عليه إذا كان قادرا على المشي كقوله تعالى : { وأذن في الناس للحجّ يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق }

{وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا } قال : يأتوك رجالا فدل على أن الركوب ليس معتبرا في الزاد، وقد جاء في السنة ما يدل على اشتراط الركوب ، ولاشك أن الأصل يقتضي أنه إذا كان بعيدا مسافة السفر لابد من أن يتهيأ له ما يوصله إلى البيت ، فهذه الدابة إذا كان يملكها فلا إشكال ، وإن كان لا يملكها نظرنا في أجرة مثله للركوب ، فإذا كانت أجرته مائة ريال في ركوبه وذهابه للحج وإيابه فإننا نقول إذا ملك المائة لركوبه ، ثم ننظر في طعامه ونفقة الطعام فإذا كانت تُكلّفه مثلا مثلها فإننا نقول إذا كان عنده المائتان وأمن الطريق وليس في الطريق خطر عليه فإنه يجب عليه أن يحج ؛ لأنه يستطيع أن يصل إلى البيت ، وهذا المذهب يقوم على تفسير الاستطاعة بشرطين : الراحلة ، والزاد ، كما ورد التفسير في السنة . الراحلة وهو المركوب الذي يركبه لبلوغ مكة كما في زماننا سيارة الأجرة تنزّل منزلة الراحلة ، فإذا وجد من يستأجره أو وجد صديقا يقله ويحمله فحينئذ يسقط الأجرة إذا لم يكن في حمله ضرر كما يقول العلماء إذا لم تكن منة عليه وفي ذلك أذية عليه فلابأس ، وحينئذ يسقط شرط الراحلة ؛ لأنه في حكم من ملك الراحلة .

أما بالنسبة للنفقة فالمراد بها نفقة الأكل ونفقة السكن في ذهابه للنسك وإيابه .

ومن أهل العلم من اعتبر الذهاب دون الإياب ؛ والصحيح أنه معتبر بالذهاب والإياب ، إذا قدّرت النفقة :

فأولا : تقدر ذهابا وإيابا .

ثانيا تقدر للركوب وللأكل .

ثالثا يقدر معها السكن لمثله .

ورابعا أن يكون هذا التقدير يعتد به لمثله ، فلا يبالغ ولا يجحف به ، فينظر إلى مثله إذا ركب يركب ما يرتفق به المثل ، فكبير السن يركب ما لا يركبه الشاب الجلد ، فيحتاج إلى وسيلة تريحه أكثر من الشاب ونحو ذلك مما ينظر فيه على حسب اختلاف الأشخاص .

فالشرط في الاستطاعة الزاد والراحلة ، لكن مع هذا ينبغي اعتبار أمن الطريق ، فأمن الطريق نص عليه العلماء -رحمهم الله- فلو كان الطريق مخوفا أو لا يمكنه بلوغ البيت أو في زمان فتنة فإنه لا يجب عليه أن يحج في ذلك الزمان ، فلو تعسر عليه الوصول إلى البيت إلا من طريق يخاف فيه القتل أو يخاف عدوا من أعدائه فإنه لا يجب عليه حتى يأمن .

قال رحمه الله : [ مما يصلح لمثله ] : مما يصلح لمثله الزاد والراحلة .

قال رحمه الله : [ فضلا عما يحتاج إليه لقضاء دينه ] : إذا قدرنا نفقة هذا المسافر لحجه فرضنا بخمسمائة ريال ما بين الركوب ونفقة النزول ونفقة الأكل فنقول له : يجب عليك الحج إذا ملكت خمسمائة ريال زائدة عن نفقتك الأصلية ونفقة من تعول ، فإذا كان عنده زوجة وعنده أولاد ونفقته الأصلية لهم بخمسمائة ريال ووجد خمسمائة ريال فأصبح المجموع عنده ألف ريال وجب عليه الحج ؛ لأنه ملك نفقة الحج وما يستطيع به الحج فاضلا عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته ، وأما إذا كان دون ذلك فلا يجب عليه .

قال رحمه الله : [ ومؤونة نفسه وعياله على الدوام ] : ومؤونة نفسه وعياله كما ذكرنا .

قال رحمه الله : [ ويعتبر للمرأة وجود محرمها ] : ومن شرط وجوب الحج على النساء أن يكون مع المرأة محرم ، والمحرم شرط في وجوب الحج ؛ لأنه لا يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم ؛ فإن النبي -r- قال كما في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- : (( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم )) فبين عليه الصلاة والسلام أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم ؛ وفي الحديث الصحيح أن رجلا من الصحابة قال : يا رسول الله، إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا وإن امرأتي انطلقت حاجة . فقال عليه الصلاة والسلام : (( انطلق فحج مع امرأتك )) فأمره أن يحج معها .

فالمَحْرم شرط لوجوب الحج على المرأة ؛ لأنها إذا سافرت وحدها لم تأمن أذية المؤذين ، ولم تأمن أن يصيبها شيء ، فتحتاج إلى من يقوم عليها ، فإذا قام عليها الأجنبي لم تأمن الفتنة ، ومن هنا وضعت الشريعة هذا الشرط لنوع خاص وهم النساء يجب أن يكون معها محرم ، هذا الشرط محله أن تكون المرأة بعيدة عن مكة مسافة القصر فأكثر، أما لو كانت من أهل مكة فيجوز لها أن تحج مع الرفقة المأمونة ولا يشترط وجود المحرم معها ؛ لأنها ليست على سفر؛ لأن مسافة المناسك من مكة ليست مسافة سفر .

قال رحمه الله : [ وهو زوجها ومن تحرم عليه من التأبيد بنسب أو سبب مباح ] : وهو أي المحرم زوجها ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح أو رضاع : المحرم أمر مهم ، وينبغي لطالب العلم ولكل مسلم إذا بلغ طور الرجال أن يعرف من هي المرأة التي هي محرم له يجوز له أن يسلم عليها ، وأن يختلي بها ، وأن يسافر معها ، ومن هي المرأة الأجنبية التي هي بخلاف ذلك ، فمعرفة المحارم أمر مهم ؛ لأنه تترتب عليه مسائل شرعية .

والمحرم هو: كل من يحرم على المرأة على التأبيد بنسب أو سبب من المصاهرة أو الرضاع .

{ الرجال قوامون على النساء } .

وأما بالنسبة للمحرم من قرابتها على التأبيد فهم من ثلاث جهات :

الجهة الأولى : جهة النسب .

والجهة الثانية : جهة المصاهرة .

والجهة الثالثة : جهة الرضاع .

فالمرأة إذا حرمت على الإنسان على التأبيد فإنها محرم له إلا في اللعان ، فأما بالنسبة للمحرمة من جهة النسب فقد حرم الله من جهة النسب سبعاً من النساء ، وهن : الأمهات ، والبنات، والأخوات ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، والعمات ، والخالات . فهؤلاء سبع من جهة النسب وقالوا نسب لأنه ينسب للإنسان ويضاف إليه .

فأما الأم فهي كل أنثى لها على الإنسان ولادة ؛ سواء كانت مباشرة كأمه التي ولدته ، أو أم أمه وإن علت سواء كانت تمحضت بالنساء كأم أمه وهي الجدة ، أو تمحضت بالذكور كأم أب الأب ، فكل هؤلاء محارم ومحرمات للإنسان ؛ لقوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم } وأجمع العلماء -رحمهم الله- على تحريم الأم المباشرة والأم بواسطة سواء تمحضت بالذكور أو بالإناث أو جمعت بينهما .

النوع الثاني : البنات ، والبنت : هي كل أنثى لك عليها ولادة ، سواء كانت مباشرة كبنتك من صلبك ، أو بواسطة كبنت ابنك أو بنت بنتك ، تمحضت بالإناث كبنت البنت ، أو تمحضت بالذكور كبنت الابن ، فهؤلاء كلهن محرمات ومحارم ؛ لقوله تعالى : { وبناتكم } .

النوع الثالث : الأخت ، والأخت هي: كل أنثى شاركتك في أحد أبويك ، أو فيهما معا ، فقول العلماء : هي كل أنثى شاركتك في أحد أصليك المراد بها الأخت لأب أو الأخت لأم ، وهي التي شاركت في أحد الأصلين ، أو شاركت فيهما معا وهي الأخت الشقيقة ، فالأخوات ثلاثة أنواع: شقيقة، ولأب ولأم ، فكلهن محرمات ومحارم لقوله تعالى : { وأخواتكم } .

النوع الرابع : الخالات ، والخالة : هي كل أنثى شاركت الأم في أحد أصليها ، أو فيهما معا، ويشمل هذا الخالة الشقيقة وهي التي شاركت في الأصلين ، والخالة لأب ، والخالة لأم ، فكل واحدة منهما شاركت في أحد الأصلين . الخالة لأم هي أخت الأم لأم ، والخالة لأب هي أخت الأم لأب ؛ والأصل في ذلك قوله تعالى : { وخالاتكم } ، والخالة يستوي أن تكون خالة لك أو خالة لأصولك ، فخالات الأب وخالات الجد وخالات الجدة كلهن خالات لك ؛ ولذلك قال العلماء : خالات الأصول خالات للفروع .

النوع الرابع : العمات ، وهي كل أنثى شاركت الأب في أحد أصليه ، أو فيهما معا ، فيشمل العمة الشقيقة وهي التي شاركت في الأصلين ، والعمة لأب ، والعمة لأم ، فكل واحدة منهما شاركت في أحد الأصلين ، فإذا شاركت المرأة الأب في الأصلين فهي عمة شقيقة ، وإذا شاركت في أحدهما فهي إما عمة لأب ، أو عمة لأم ؛ والأصل في ذلك قوله تعالى : { وعماتكم }.

وأما النوع الخامس فهن بنات الأخ ، وبنات الأخ هي كل أنثى لأخيك عليها ولادة ، فكل ما ولد أخوك فإنه محرم ومحرم عليك نكاحه ؛ لقوله تعالى : { وبنات الأخ } يشمل الأخ الشقيق والأخ لأب والأخ لأم ، فكل من أنجبوا من النسوة من البنات يعتبرن محارم ومحرمات .

وأما بنت الأخت وهو النوع السابع فهي كل أنثى لأختك عليها ولادة سواء كانت مباشرة كبنت الأخت أو بواسطة كبنت بنت الأخت أنثى كانت أو ذكرا ؛ والأصل في ذلك قوله تعالى : { وبنات الأخت } .

فهؤلاء كلهن محرمات من جهة النسب ، وتحريمهم إلى الأبد ، فلا يحِللن للإنسان عمره كله .

أما النوع الثاني من المحرمات على التأبيد فهن المحرمات من جهة المصاهرة ، وهن أربعة أنواع : بنت الزوجة ، وأمها ، وزوجة الأب ، وزوجة الابن ، هؤلاء أربعة من النساء يحرم على المسلم أن ينكحهن إلى الأبد . فالتحريم على التأبيد ، وهن محرمات ومحارم .

فأما بالنسبة لزوجة الأب فكل أنثى عقد عليها الأب سواء دخل بها أو لم يدخل ، سواء طلقها أو مات وهي في عصمته ، فكل أنثى عقد عليها تعتبر محرمة عليك إلى الأبد ؛ لقوله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } فقال تعالى : { ما نكح آباؤكم } والمرأة منكوحة للأب بالعقد، فكل امرأة عقد عليه الإنسان فقد نكحها ، سواء دخل بها أو لم يدخل ؛ كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } فوصفهم بكونهم ناكحين قبل الدخول ، فدل على أن كل امرأة عقد عليها الأب ولو لم يدخل بها فإنه ناكح لها ، يستوي في ذلك زوجة الأب وزوجة الجد وإن علا الجد سواء كان من جهة الأب أو من جهة الأم .

أما النوع الثاني من المحرمات من المصاهرة فهي زوجة الابن ، وهي كل أنثى عقد عليها ابنك سواء دخل بها أو لم يدخل ؛ لقوله تعالى : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } فبين I أن كل امرأة صارت حليلة للابن أنها حرام على أبيه وإن علا سواء دخل بها أو لم يدخل ؛ لأنه قال :{ حلائل أبنائكم } وحليلة الابن تكون المرأة حلالا للابن بمجرد العقد ، فلا يشترط دخوله بها، وسواء كان الابن ابنا لك مباشرة أو ابن ابنك أو ابن بنتك ، فلو أن ابن البنت عقد على امرأة في هذه الساعة حل لجده أن يدخل على المرأة وأن يسلم عليها وأن يصافحها وأن يختلي بها ؛ لأنها حرام ومحرم .

وأما بالنسبة لبنت الزوجة وهي النوع الثالث من المحرمات من المصاهرة فبنت الزوجة وهي الربيبة فهي كل أنثى ولدتها الزوجة إذا كانت من زوج آخر سواء كان هذا الزوج قد نكح الزوجة قبل الرجل أو بعده ، فكل من تنجبه هذه المرأة التي نكحتها من النساء فهي ربيبة ، ويستوي أن تكون بنتا مباشرة كبنت الزوجة المباشرة أو بنت بنتها فإنها ربيبة أيضا ، ويستوي أن تتمحض بالإناث أو تتمحض بالذكور فبنت بنتها ربيبة وبنت ابنها ربيبة ؛ والأصل في ذلك قوله تعالى: { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } إلا أن الربيبة وهي بنت الزوجة لا تحرم إلا بشرط أن يدخل بأمها ، فإذا دخل بأمها حرمت الربيبة ، ولا يكفي مجرد العقد ، فلو عقد على امرأة ثم طلقها حل له أن ينكح الربيبة وهي بنتها ، ويستوي في الربيبة أن تكون قد تربّت في حجر الإنسان ، أو كانت بلغت قبل أن يدخل بأمها ؛ فإنها ربيبة في مذهب جمهور العلماء ؛ لقوله تعالى: { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } .

فقوله : { في حجوركم } خرج مخرج الغالب ، والنص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه، وقد دلت السنة على أن الربيبة حرام على الزوج سواء كانت في حجره أو لم تكن في حجره ؛ لأن النبي قال لأم حبيبة بنت أبي سفيان -رضي الله عنها وعن أبيها- كما في الصحيحين- (( فلا تعرِضُن -يخاطب أزواجه- علي بناتكن ولا أخواتكن )) فحرم عليهن أن يعرضن بناتهن فدل على أن الربيبة محرمة سواء كانت في الحجر أو لم تكن في الحجر؛ لأنه لم يقل فلا تعرضن علي بناتكن اللاتي في حجري ، وإنما قال : فلا تَعرضْن علي بناتكن مطلقا فدل على صحة مذهب الجمهور على تحريم الربيبة مطلقا .

أما النوع الرابع من المحرمات من جهة المصاهرة فهي أم الزوجة ، وأم الزوجة هي كل أنثى لها على الزوجة ولادة ؛ سواء كانت أمها المباشرة أو أما لأمها فجدة الزوجة سواء من جهة أبيها أو أمها فإنها محرمة ؛ لأنها أم للزوجة تمحضت بالذكور أو تمحضت بالإناث أو جمعت بينهما ؛ فيجوز للرجل أن يسلم على أم زوجته وعلى جدة زوجته سواء كانت من جهة الأب أو من جهة الأم ؛ لقوله تعالى : { وأمهات نسائكم } فدل على أن أم المرأة محرم ؛ ولما قال الله تعالى : { وأمهات} فشمل الأم المباشرة والأم بواسطة ؛ وقال : { وأمهات نسائكم } والمرأة تكون من نساء الإنسان بمجرد العقد ، فبمجرد أن يعقد على زوجة يجوز له بعد العقد أن يدخل على أمها وأن يسلم عليها وأن يختلي بها وأن يسافر محرما لها .

هؤلاء هن المحرمات من جهة النسب ، ومن جهة المصاهرة .

ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، فتحرم الأم من الرضاع، والبنت من الرضاع، والعمة من الرضاع، والخالة من الرضاع، وبنت الأخ ، وبنت الأخت ، والأخت من الرضاع ، وكذلك أيضا يحرم من الرضاع بالمصاهرة أم الزوجة من الرضاع، وبنت الزوجة من الرضاع، كلهن محارم، وزوجة الابن من الرضاع، وزوجة الأب من الرضاع، كلهن محارم ، هذا حاصل ما يقال في المحرم على التأبيد .

وقال المصنف: [على التأبيد ] فخرج المحرم من النساء على التأقيت ، فمثلا أخت الزوجة نجد بعض الأزواج الآن يجلس مع أخت زوجته ، فإن قيل له : لماذا تفعل هذا ؟ يقول : إنها محرّمة علي، ولا يفرّق بين التحريم والمحرمية ، فليس كل مُحرَّم نكاحها مَحْرما للإنسان ، الأجنبية محرّم نكاحها لكن ليس معنى ذلك أنها محرم له ، فأخت الزوجة تحرمها مؤقت ؛ لأنه إذا طلق أختها وخرجت من عدتها حل له أن ينكحها ، فليست بمحرم ؛ لأنها محرمة على التأقيت ، وهكذا المطلقة ثلاثا ؛ فإنها محرمة على التأقيت حتى تنكح زوجا غيره ، وهكذا بالنسبة لبقية المحرمات كما في مانع الكفر ومانع الزنا وغيرها من الموانع المؤقتة ، فبين رحمه الله أن التحريم لا يكون إلا من جهة المحرمات على التأبيد .

قال رحمه الله : [ فمن فرط حتى مات أخرج عنه من ماله حجة وعمرة ] : فمن فرط في الحج حتى مات أخرج من ماله نفقة الحج والعمرة بمعنى أنه يحجّجُ عنه ؛ والأصل في ذلك أن النبي جعل الحج دينا لله ، وقال للمرأة : أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ قالت: نعم. قال : (( فدين الله أحق أن يقضى )) فمن وجب عليه الحج في حياته فتركه وفرط فيه وتساهل فيه حتى توفي -والعياذ بالله- ولم يحج ؛ فإنه عاص لله -U- آثم للتأخير ، ثم في ذمته هذه الحج بالبدل ، فيخرج من ماله على قدر ما يستأجر الشخص بنفقته ذهابا وإيابا لمثله في الحج، فلو كان يحجج عن الإنسان بألف ريال إذا توفي وترك خمسة آلاف ريال يؤخذ الألف الريال قبل قسمة التركة ؛ لأنها دين لله عز وجل ولا تقسم التركة إلا بعد قضاء الديون ؛ لقوله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } وقال في الآية الأخرى : { من بعد وصية توصون بها أو دين } فلا حق للوارث إلا بعد سداد دينه ، فتسدد الديون .

أخرج من ماله على قدر ما يحجّج عنه : إذا استأجر الشخص للحج هناك صورتان :

الصورة الأولى: أن يقول لك: أعطني ما يكفيني للركوب وللأكل وللسكن وهذا ما يسميه العلماء بأجرة البلاغ .

والصورة الثانية : أن يقول لك : أعطني عشرة آلاف، أعطني خمسة آلاف، أعطني ثلاثة آلاف، ما زاد فهو لي ، وما نقص فأنا أضمنه .

فأما الصورة الأولى فيسمونه أجرة البلاغ ، وأما الصورة الثانية فيسمونها أجرة المقاطعة ، يفاصله ويبيع ويشتري معه .

فأما إذا أخذ أجرة البلاغ فلا إشكال في جواز ذلك ومشروعيته أن يحجّج بقدر ما يبلغه ذهابا وإيابا بنفقة مثله ، وإذا حج معتمرا أو قارنا أعطي قيمة الدم لنسكه هذا لا إشكال في جوازه .

وأما إذا قال : أريد خمسة آلاف وما زاد فهو لي ، أريد عشرة آلاف وما زاد فهو لي ؛ فهذا لا يجوز في أصح قولي العلماء ؛ لأن الحج عبادة وليس محلا للتجارة ، وإنما عليه أن يبلغه الحج ، وأن يعطيه ما يبلغه الحج ، وليس محلا لأن يأخذ عليه مقاطعة ، فيكون له الزائد ، ويضمن ما نقص بعد ذلك . يعطيه نفقة حجه ذهابا وإيابا وتؤخذ من تركة الميت .

قال رحمه الله : [ ولا يصح من كافر ولا مجنون ] : ولا يصح الحج من كافر ولا مجنون ؛ قال تعالى في الكافر : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } فبين أنه لا يصح مع الكفر عمل ، ولا مجنون ؛ لأن المجنون قد رفع عنه القلم فقال : (( رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم المجنون حتى يفيق )) فدل على عدم صحة حج المجنون .

قال رحمه الله : [ ويصح من الصبي والعبد ولا يجزئهما ] : ويصح الحج من الصبي ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام- حينما سألته المرأة : ألهذا حج ؟ قال : (( نعم ، ولك أجر )) فبين أن الحج يصح من الصبي .

قال رحمه الله : [ والعبد ] : والعبد فإذا حج العبد صح ، ولكن لا يجزي الصبي ولا يجزي العبد حجهما حال الصبا وحال الرق ؛ لأنه حج نافلة ، ولم يجب عليهم الحج بعد ، وإنما يخاطب الصبي بالحج بعد بلوغه ، فإذا حج قبل البلوغ فقد تنفل ، فقد أدى العبادة قبل وجوبها عليه، والنافلة لا تجزي عن الفرض ، وهكذا بالنسبة للرقيق ؛ فإنه قد أداها نافلة ، فإذا عتق فإنه يعيد ويحج ، وكذلك إذا بلغ يحج حجة الإسلام ؛ وفي هذا أثر ابن عباس اختلف في رفعه ووقفه ، ومثله لا يقال بالرأي فيجب عليه أن يعيد حجه بعد بلوغه وعتقه .

قال رحمه الله : [ ويصح من غير المستطيع والمرأة بغير محرم ] : ويصح الحج من غير المستطيع فلو أن شخصا لا يستطيع الحج ولكنه تكلف وتجشم ، وكم ترى عينك في الحج أناسا من الحطمة والضعفة وكبار السن ، بل تتعجب كيف بلغ إلى هذه الأماكن ، ولكنها العزيمة . قال بعض السلف : علمت أن قوة الإنسان في قلبه وروحه وليس في جسده ، ثم قال : ألا ترى الشيخ الكبير الحطمة يفعل ما لا يفعل الشاب ، أو يقوى ما لا يقوى عليه الشاب ، هذا يدل على صدق العزيمة فلو أن هذا الرجل الذي لا يجب على مثله الحج تجشّم الصعاب وركب الشدائد وحج ؛ صح حجه وعلى الله أجره ، ولاشك أن الحج صحيح ، فليس شرط الاستطاعة شرطا في الإجزاء والصحة .

قال رحمه الله : [ والمرأة بغير محرم ] : وكذلك يصح الحج من المرأة بغير محرم ، ولكنها آثمة عاصية ، فإذا حجت ؛ صح حجها ؛ لأنها فعلت ما أمرها الله به وأدت العبادة على وجهها ، وتأثم لعصيانها ؛ لنهي النبي عن سفر المرأة بدون محرم ، هذا إذا كانت على مسافة القصر كما ذكرنا . أما إذا كانت دون مسافة القصر فيصح منها بدون محرم .

قال رحمه الله : [ ومن حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه أو عن نذر وقع حجه عن فرض نفسه دون غيره ] : بين رحمه الله أن الحج عن الغير يشترط فيه أن يكون الإنسان قد حج عن نفسه ، فشرع في الشروط الخاصة في المسائل الخاصة بعد أن بيّن شروط الحج العامة شرع في بيان الشروط الخاصة في المسائل الخاصة ، وهي مسألة الحج عن الغير . يشترط أن يكون الوكيل قد حج عن نفسه ؛ والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي سمع رجلا وهو يطوف بالبيت يقول : لبيك عن شبرمة . فقال : (( ومن شبرمة ؟ قال : أخي أو ابن عم لي مات ولم يحج . قال : أحججت عن نفسك ؟ قال : (( لا حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة )) فدل هذا على أن الوكيل لا يصح أن يقوم بالحج عن الغير إلا بعد أن يؤدي الفرض عن نفسه .

الأسئـــــلة :

السؤال الأول : فضيلة الشيخ : من أخر ركعتي الطواف إلى ما بعد وقت النهي فهل يجوز أن يبدأ بالسعي ، وإذا طال وقت النهي فهل يؤثر طول الانتظار في الطواف والسعي . وجزاك الله خيراً ؟

الجواب :

بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :

فيجوز تأخير ركعتي الطواف إلى ما بعد وقت النهي ؛ وذلك لأن النبي نهى عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس ، وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس .

وأما مشروعية التأخير فقد جاءت بها سنة راشدة عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حيث أخر ركعتي الطواف إلى ذي طِوَى ، فطاف في حجه طواف الوداع بعد صلاة الصبح ثم أخر ركعتي الطواف حتى أشرقت عليه الشمس وهو في وادي ذي طِوَى ، وهذا الوادي هو جهة الزاهر الآن ، فصلى رضي الله عنه وأرضاه بعد طلوع الشمس ، فدل على مشروعية تأخير ركعتي الطواف إلى ما بعد انتهاء وقت النهي .

وأما إذا كان في العمرة فسعى قبل أن يصلي الركعتين ؛ صح سعيه ، ثم يصلي الركعتين بعد طلوع الشمس ؛ لأن تقدمها على السعي ليس بشرط في صحة السعي وليس بواجب ولا ركن، والسعي صحيح ؛ لأنه سعى كما أمره الله ، فيسعى مباشرة حتى لا يفصل بين الطواف والسعي .

وقد اختار طائفة من العلماء الموالاة بين السعي والطواف في العمرة . والله تعالى أعلم .

السؤال الثاني : فضيلة الشيخ : أنا أشتغل في دعوة غير المسلمين فأجد من الكفار من يرغب تعلم في الإسلام ، ويظهر منهم أنهم يريدون أن يسلموا ولكن يترددون ، فهل يجوز أن أعطي من مال الزكاة ترغيبا لهم في الإسلام . وجزاك الله كل خير ؟

الجواب :

إذا كان الكافر يؤلف للإسلام بالمال ؛ جاز إعطاؤه من الصدقات والزكوات ؛ لأن الله تعالى جعل في الزكاة سهما للمؤلفة قلوبهم .

وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أنهم من أصناف الزكاة الثمانية الذين يجب دفع الزكاة لهم، فالمؤلفة قلوبهم يدخل فيهم من كان متذبذباً فإذا أعطي المال انشرح صدره فيعطى ؛ لأن الناس أقسام ، فمنهم من يدخل الإسلام بالرأي والحجة ، ومنهم من يدخل بالقوة والسيف، فإذا رأى العزة للإسلام كما وقع لصناديد قريش لما رأوا أن الإسلام قد ظهر أسلموا ، ثم اطمأنت قلوبهم بعد ذلك ، ومنهم من يدخل بالمال ، وكل أعطاه الله حقه ، وهنا يرد الإشكال : كيف نعطي المال للناس يسلمون بالمال ؟ إذًا إسلامهم للمال وليس لله ؟

والجواب أن الإسلام دين حق ، وهذا الحق لو تأمله الإنسان تأملا صحيحا انكشف له .

فإن الإسلام دين حق ، وهذا الحق يمتنع الإنسان من تأمله بسبب فتن الدنيا ، ولكن إذا خلي بينه وبين التأمل والنظر الصحيح أدرك الصواب والحق ، ولذلك لما قيل لعمرو بن العاص : لماذا تأخر إسلامك وأنت أنت ؟ -يعني في العقل والحجا والرأي-
فقال : إنا كنا تسوسنا رجالنا يعني كبار السن منا ، وكنا تبعاً لهم في ذلك ، فلما صار الأمر إلينا وتأملنا علمنا أنه الحق ، فقد تأتي شواغل أو أمور تمنع من تأمل الحق من عصبية أو غيرها ، فإذا كان الإنسان في تردد وأعطي المال أعطي مبتغاه فإنه سرعان ما يحب الإسلام للإسلام لا للمال ، فهذا المال يقطع العوارض الدنيوية في حال كفره وضعفه ، والمقصود منه تقويته على أن يتأمل الإسلام بحق ، ولذلك تجد من ألّف قلبه للإسلام قد يعود أقوى ثباتا وغيرة على الإسلام من كثير من أهله ، وهذا عرف في التاريخ وعرف بالاستقراء والتتبع ، فمن الناس من يدخل الإسلام طواعية ، ومنهم من يدخله تأملا ونظرا ، ومنهم من يدخله بالمال رغبة ، وكل له مثال في عهد النبي ، فثمامة بن أثال سيد بني حنيفة سيد من سادات بني حنيفة لما أخذته خيل النبي وأتي به إلى رسول الله وهو سيد في قومه ، قد كان بالإمكان أن يهدده ، وقد كان بالإمكان أن يتوعده ، وقد كان بالإمكان أن يضرب رقبته على الكفر، ومع هذا كله نظر -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- النظرة الصحيحة فعلم أنه رجل على عقل ووعي أن مثله إذا تبين له الحق سرعان ما يقبل، فأمر بربطه في المسجد، فربط في مسجد النبي فصار ينظر إلى الصحابة ، نظر إلى ذلك الرعيل الذي تربىّ بين يدي النبي ، نظر إلى شمائل الإسلام وأخلاق الأعزة الكرام ، نظر إلى أخلاق النبي وسمته ودله ، في غضبه ورضاه ، في ليله ونهاره ، وصبحه ومسائه ، وأخذه وعطائه ، وبين أصحابه -صلوات الله وسلامه- وفي صلاته وفي عبادته ، نظر إلى جميع هذه الأمور كلها ثلاثة أيام، كل يوم يقف عليه رسول الرحمة -صلوات الله وسلامه عليه- ويقول : ما وراءك يا ثمامة ؟ فيقول له : إن تقتل ؛ تقتل ذا دم ، وإن تعفُ ؛ تعفُ عن كريم لا ينسى ، فلما كان اليوم الثالث نظر إليه صلوات الله وسلامه عليه النظرة الواعية الصادقة فنظر في وجهه أنه يريد الإسلام وأنه يرغبه . فقال : أطلقوا ثمامة ، فلما أطلق رضي الله عنه وأرضاه انصرف إلى حائط عن طواعية وعن اختيار، ولكنها طواعية أخذت بقلبه أشد من أخذ المكره على ما يكره عليه ، من قوة محبته في الإسلام ، طواعية وهو في عزته وأنفته وكبريائه رئيسا في عشيرته وعزيزا في قومه لم يسلم ذليلا ولا مهانا ، فخرج إلى الحائط واغتسل ، ثم جاء إلى رسول الله ليقف إليه ويقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، والله يا محمد ، لقد كان وجهك أبغض الوجوه إلي ، ودينك أبغض الأديان إلي ، فأصبح وجهك أحب الوجوه إلي ، ودينك أحب الأديان إلي، متى ؟! لما انكشف له الإسلام حقيقة ، لما زال المنافقون والمرجفون والكذابون والغشاشون والنمامون والأفّاكون والمفترون والمشركون والوثنيون الذين لفقوا على رسول الله وكذبوا عليه ، فأخذوا يلفقون عن الصحابة ، ويضعون الحواجز بين الناس وبين دين الله عز وجل، وهكذا كل صاحب فطرة مستقيمة إذا وقف أمام إنسان صاحب حق وصاحب هدى ، قد يجد العوائق من القيل والقال والترهات والأكاذيب والأراجيف وقول الحساد والنمامين ولكن إذا وقف أمام الحق منصفا صادقا متأملا سرعان ما يعرف الحق ، شاء أو أبى ، ويأخذه سلطان الحق بالقوة إذا سلمت فطرته ، وصدقت عزيمته ، وأراد النجاة من نار الله عز وجل قبل أن يأخذه الله على الكفر أخذ عزيز مقتدر، فالكفار إذا استبانت لهم الأمور، وانكشفت لهم الحقائق؛ فإنهم إذا كانوا أصحاب عقول مستقيمة أسلموا ؛ وإلا والعياذ بالله قد يكابرون { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } فالذي يعرض عليه الإسلام بالمال ليس معناه أننا نشتري الناس ليسلموا ، وإنما نريد أن نقطع العوائق والعلائق التي تحول بين الناس وبين دين الله عز وجل تحول بينهم وبين تأمل هذه الأنوار الإلهية التي تخرج من الظلمات إلى النور التي تحول بينهم وبين انشراح الصدر وطمأنينة القلب والاهتداء بهداية الله لكي يصيب الإنسان سعادة لا شقاء بعدها أبدا ، فيعطى هذا المال من أجل أن تزول هذه العوائق وليس معنى ذلك أنه يسلم من أجل أن يأخذ المال، ومن هنا من نظر في التاريخ وسمع العبر كثير ممن أسلموا وألُّفت قلوبهم سرعان ما أخذوا المال في بداية أمرهم ثم تركوه، ومنهم من رد المال ، وأحب الإسلام للإسلام ؛ لأنهم انكشفت لهم الحقيقة ، فإعطاء المال للمؤلفة قلوبهم سهم لهم سهم في الزكاة ، ولهم أن يعطوا من الصدقات ، ولو عرض عليك إنسان يريد الإسلام وتعلم أنك لو أعطيته أو تألفته بالمال أنه يسلم تبادر وتعطيه ما تستطيع ؛ لأنه إذا اهتدى على يدك وبسببك كان لك أجر صلاته وزكاته وحجه وعمرته وإسلامه وإسلام من يسلم على يديه وإسلام من أنجبه من أبنائه المسلمين ، وتلك والله هي التجارة الرابحة ، وتجارة رائجة رائحة .

نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ، ونسأله أن يهدينا ويهدي بنا ، وأن يجعلنا هداة مهتدين على طاعته ومحبته ومرضاته .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق