السبت، 10 مارس 2012


سلسلة " وعجلت إليك رب لترضى" الجزء الاول ..

الأخ محمد صلاح دخل السجن وابتلي بالمرض ومات رحمه الله صابرا محتسبا
من المنيا- قرية بهدال..............وهذا حوار معه قبل موته بأيام...وداعا محمد

حاوره أحد رفقائه في المحنة وهذه مقدمة الحوار
- منذ عشرين عاماً وأنا أعرفه وأحبه وأستشرف له مستقبلاً عظيماً في العلم والدعوة إلي الله.

- كنت أنظر إليه فأراه في كل حالٍ مبتسماً في الأفراح والأتراح, وفي شدة البلاء وتكالب الخطوب فأقول : لا يبتسم للبلاء إلا الأبطال ، ولا يصمد للشدائد إلا الرجال.

- كان القوم يقولون لي : إن محمداً سيخلفك على المنبر إذا نزلت بك نازلة أو أخذتك يد الترحال .. ولم أكن بعد قد سمعته أو رأيته على منبر .. وذات يوم جلست وهو يخطب في الناس ، فإذا فارس بيان لا يشق له غبار .. وإذا الحكمة تجري على لسانه جري الماء في المسيل.

- فقلت في نفسي: لو أطلقوا العنان للفتي لكان من الأعلام.

- جمعتني بالفتي محنة الوادي الجديد ـ وهي صفحات من التاريخ حفرت حروفها بدمائنا وصبرنا وتراحمنا وصمودنا ـ وعندها عرفت محمداً معرفة خبير ـ فهو في زنزانته : معلم القرآن وهو مدرس التفسير وعلوم القرآن ـ وهو خطيب الجمعة, وهو الجمل الأورق الذلول الذي إذا أنخته على الجمر أنيخ .. كان متواضعاًً في غير مهانة, مبتسماًً في غير استهتار .. وكنت إذا ضاقت بي المحنة بالنهار ـ وما أشدها من محن ـ أنتهز حلول الظلام ونوم الحراس.. فأصعد على نافذة الزنزانة وأنادي على محمد صلاح وقد كان في الزنزانة المجاورة لي في عنبر 7.

- فأتبادل معه حديثاً عذباً جميلاً مرحاً يثلج صدري, ويزيل همي فأنزل وقد ذهب عني عناء النهار ، وعلا بي الإيمان إلي عنان السماء.

- وعلى حين غفلة ـ وشر البلاء ما نزل في غفلة ـ نادي علىً أخي حسام فاروق ليخبرني أن محمد صلاح قد نزل به مرض البطن فانتفخت بطنه ونحل جسده, وقل طعامه ولم يعد يقوي على الحركة ـ فبكيت .. فلست أملك للوردة التي ذبلت أن أسقيها بماء الحياة.

- ولا أعرف ما داؤه ولا أين دواؤه. فالحال .... كل يعرف كيف كان الحال .. فقلت لحسام. نادوا على الحراس واستعطفوهم لعلهم يخرجون به إلي المستشفي .. وقد فعل فيسر الله له السفر إلي مستشفي سجن ليمان طرة مريضاً بالاستسقاء.

- فمكث هناك والناس ينظرون إليه نظرة مودع للحياة ـ وشاء الله أن لا يجمع عليه بلاء السجن والمرض فتم الإفراج عنه ـ إفراجاً صحياً ـ وخرج فارساً يواجه محنة المرض يركب جواد الصبر والرضا ، ولا تفارق الابتسامة شفتيه ..

- فكرت أن أجري معه حواراً ، فهو أقل ما يقدم له .. ولكن قلت في نفسي : لا يستخرج منه الدرر إلا صديق أحبه في الله وسعد بصحبته في السراء والضراء فوقع اختياري على الأخ الحبيب سامح الفولي .. وقد استجاب لطلبي مشكوراً ، فذهب إلي حبيبه محمد صلاح .. وكان له معه هذا الحوار :

يقول الأستاذ : سامح الفولي:

- كان لي عظيم الشرف أن ألتقي بالأخ الفاضل/ محمد صلاح وأن أجري معه هذا الحوار الشيق .. والذي أرجو أن ينفع الله به كل من قرأه.. وأن يجزي صاحبه خير الجزاء وأن يعافيه من كل مرض.

وبعد ..

- فقد توجهت بعد ظهر يوم الخميس الموافق الثالث عشر من ذي الحجة لعام 1429 من الهجرة راكباً سيارة الأجرة إلي قربة بهدال حيث يقطن الشيخ محمد صلاح .. وهي قربة جميلة تحيطها الخضرة من كل ناحية .. وتهب عليها نسائم الهواء الطلق الممزوج بأنفاس أهل القرية الطيبين المحافظين على المبادئ والأصول.

- استمتعت كثيراً بالخضرة والهواء .. ولكن استمتاعي بحديث أخي محمد صلاح كان أعظم وأرقي ، فقد جلست معه في روضة عاطرة ، واستشعرت السكينة والرحمة تنزلان في مجلسنا .. ولم لا؟ وقد قال رسولنا صلي الله عليه وسلم : "من عاد مريضاً لم يزل في خرفة الجنة. قيل: يا رسول الله: وما خرفة الجنة؟ قال: جناها".

- كان مفتاح سعادتي حين طرقت الباب ففتح لي مستقبلاً وجهي بثغره البسام ، وسلامه الرقيق ـ. ثم استقبلني والده كأحسن ما يستقبل الأضياف .. ثم جلسنا فهنأته بالعيد ، وبدأت معه الحوار .

1- (قلت له:- يا شيخ محمد .. عرفني وعرف القراء الكرام بنفسك؟)

- اسمي محمد صلاح محمد .. السن 38 عام وأعمل مدرس تربية رياضية بإدارة المنيا التعليمية, ورزقت بأربعة من الأولاد : الأول مصعب ثماني سنوات والثاني سهيلة 4 سنوات والثالث بسملة 3 سنوات والرابع أروي أربعة أشهر .

2- ثم سألته عن بداية التزامه والعمل مع الجماعة والدعوة إلي الله؟

- فقال مبتسماً : "بدأت العمل الجماعي من خلال الجماعة الإسلامية في عام 1988م - وكنت في السابعة عشر من عمري - في قرية بهدال حيث كانت الجماعة منتشرة بدعوتها في قريتنا .. وكان بالقرية ما يقرب من سبعين أخاًًً من إخوة الجماعة الإسلامية في ذلك الوقت, وكنت في دراستي بالمرحلة الثانوية ، فانضممت إلي مجموعة ثانوي التي يشرف عليها في ذلك الوقت المهندس محمد جمال والمهندس محمد عبد الرحمن - وكان لهما دور كبير ومؤثر فينا بعد الله عز وجل - وكنا نري في الشيخ المهندس محمد جمال الشخصية والمكانة العلمية التي نحلم بها .. فأنا من أكثر الناس تأثراً بالشيخ ومحباً لشخصيته المرحة وأسلوبه في تنشئة الأخوة في هذه السن ، وحسن التعامل مع الآخرين ، والحزم مع الحلم ، وكانت شخصيته لها حضور وقبول عند جميع الأخوة .

3- حدثنا عن بداية التحاقك بالجامعة .. وكيف كان العمل فيها؟

- بعد أن أنهيت المرحلة الثانوية انتقلت لكلية التربية الرياضية بجامعة المنيا عام 1990م .. والتقيت بمجموعة أخوة الجامعة : الشيخ حسام فاروق وسيد جابر من مغاغة .. ومن المواقف المهمة أنني كنت أول أخ في كلية التربية الرياضية ، وكانت عملية الانتخابات الطلابية تتم في كلية الدراسات الإسلامية ، وكانوا يمنعون كل الأخوة من الدخول إلا أنا لأن كلية التربية الرياضية كانت تحضر محاضراتهم في نفس المبني.

4- حدثنا عن بداية اعتقالك وما هي الدروس التي تعلمتها من الاعتقال؟

- دخلت المعتقل في سجن استقبال طره وكان عمري في هذا الوقت تسعة عشر عاماً أو عشرين عاماً .. ودخلت لأتعلم فوجدت نفسي في موطن المُعلِم لأني كنت أحفظ بعض الأبحاث - والتي كانت تصادر من السجون في هذه الفترة - والتقيت بأناس كثيرين ..

- وأذكر أني التقيت بالشيخ محمد جمال ، والذي كنت التقيته خارج السجن في مرحلة ثانوي كما ذكرت من قبل .. فوجدت له صورة غير التي رأيتها في الخارج مثل أنه حازم وصارم وحركي فقط .. ولكن لم نكن نري الجانب الروحاني منه ، فوجدته من أندي الناس صوتاً في قراءة القرآن ، وكذلك من أقرب الناس في علاقته بالله سبحانه وتعالي .. أيضاً التقيت بالشيخ الحبيب رجب حسن فوجدته مدركاً للفقه حافظاً للمتون ومع ذلك تراه من أبسط الناس في معاملته مع الأخوة.

وكانت مجموعة أخوة المنيا التي تسمي (الشواكيش) لا ترتاح إلا معه في زنزانته فكان لا يقيدهم بعلمه ولكن يتبسط معهم وكانت هذه الصورة المخالفة للعالم أو لطالب العلم الذي يري كثير من الناس أن يقل الكلام ويقل من الخلطة ويقل التبسم .. فكانت هذه الصورة الجميلة من أكثر الفوائد التي تعلمتها منه.

5- التقيت بكثير من قيادات مجلس شوري الجماعة الإسلامية في السجون فما الذي تعلمته منهم؟

- من أهم الأحداث التي مررت بها في فترة السجن أنني نزلت لأداء الامتحانات في سجن المنيا .. والتقيت بالمشايخ الدكتور ناجح والدكتور عصام دربالة والشيخ علي عبد المنعم والشيخ همام .. ودخلت من باب سجن المنيا على التأديب .. وكان أول من تلقاني : الشيخ عصام دربالة وكان ودوداً .. وكان لي موقف مع الشيخ عصام لا أنساه لما سألني عن تحصيلي في العلوم الشرعية فكتبت له في ورقة أني حصلت في العلم الفلاني كذا والعلم الفلاني كذا .. وبعد أن قرأ الورقة قال لي أن أكثر النقص عندك في القرآن وعلومه والحديث, فكان أول من أشار علىً بأن البناء الذي ابتدأته فيه خطأ .. ذلك أننا كنا نجتهد من أنفسنا دون إرشاد .. ومكثت في سجن المنيا حوالي سبعة عشر يوماً تعلمت فيها الكثير من المشايخ ، وتعلمت منهم الصبر والثبات ، وكذلك تغيرت الصورة بالنسبة لي عندما رأيت الشيخ علي عبد المنعم هو الذي يطبخ لنا - وكان إمامنا في الصلاة - وكنا لا نعرف عنه إلا أنه يطبخ .. فلما سألنا قيل لنا :إنه من أقوي الناس في علوم اللغة والفقه وباقي علوم الشريعة.

6- خرجت من الرحلة الأولي في السجون ، وعدت لممارسة الدعوة .. فحدثنا عن بعض الطرائف التي حدثت معك؟

- بعد حوالي سنة كاملة خرجت من السجن وانضممت للعمل مع الأخوة في القرية وعدت مرة أخري للخطابة وإلقاء الدروس في المساجد, وأتذكر موقفين طريفين :-

- الأول أنني كنت أخطب الجمعة في إحدي القرى ، و بينما أنا على المنبر إذ برجل يصعد إلي ويقبل يدي ورأسي .. فأصبت بالذهول ، إلا أن بعض المصلين أنزلوه وقالوا لي : إنه مجنون ،فأكملت الخطبة بسرعة ونزلت.

- والثاني وهو أكثر غرابه - فبعد أن خطبت الجمعة صليت بهم فإذا بي أنسي آيتين من الفاتحة ومع ذلك ، - والأكثر غرابة - أنه لم يردني أحد ظناً منهم أنهم هم الذين لم يتابعوني جيداً .. وبعد أن انتهيت ومضي الناس إلي بيوتهم جاءني أخ وقال لي : إنه أحس أني نسيت آيتين من الفاتحة وقال أخر : وأنا كذلك وهنا اجتمعوا علىّ أني نسيت وكان المأزق الفقهي هو : هل تصح الصلاة أم لا؟ فسألنا الشيخ محمد مختار ، فقال : تصح على مذهب الأحناف .. لأنه لا سبيل لتجميع الناس وإعادة الجمعة.

ولا أنسي أن أذكر والدي وأمي فقد كانوا يعطونني كل الحرية والحركة ولا يضيقون على مثلما يفعل كثير من الآباء مع أبنائهم الملتزمين بالدعوة والدين خوفاً عليهم وعلى أنفسهم من أن يمسهم سوء أو ضر.

- وكان ارتباطي بالقرية والدعوة فيها أكثر من الدعوة والعمل في المدينة وقد كانت كثير من المعسكرات واللقاءات الخاصة بالجماعة تقام في قريتنا بهدال .. وكانت ملتقي لكثير من إخواننا.

7- في بداية التسعينيات بدأت مرحلة جديدة في حياتك فهل نطمع أن تحدثنا عنها؟

- بدأت مرحلة جديدة مع خروج الشيخ أسامة حافظ -ولست أنا وحدي بل كل أبناء الجماعة - فعلي مستواي الشخصي لم أتعلم كلمة لا أدري إلا من الشيخ أسامة .. كذلك كان الشيخ حفظه الله يعطي لنا الدروس ونحن في الجامعة ، فإن أراد الاعتذار يوماً جاء إلي المسجد ليعتذر لنا .. وكان يحضر له في بعض الأحيان عدد بسيط جداً لا يتناسب مع فضيلته ومع ذلك تري الشيخ لم يتغير ، ويعطي درسه كاملاً .. وكان هذا مما يحزنني جداً ويصيبني بالضيق لأن من يحضر درس الشيخ المهندس أسامة حافظ عشرة أخوة أو أقل, ومن الأشياء التي تراها في وجهه : حالة الرضا في أشد وأصعب اللحظات ، فلقد رأيته والله في مسجد الرحمن - والمسجد محاصر والوضع الأمني على أهبته - ونظرت إلي وجهه والله ما اطمأن قلبي بشيء مثلما اطمأن بنظري إلي وجه الشيخ أسامة حافظ .. وتذكرت قول ابن القيم عن شيخه ابن تيميه :"أنهم كانت إذا ضاقت بهم الدنيا كانوا ينظرون إلي وجه شيخهم فيجدون الرضا".

8- حدثنا عن بعض الطرائف في حياتك الدعوية؟

- كان مقرراً أن نحضر في مسجد التوحيد لقاء للشيخ محمد مختار حفظه الله يعطيه لطلاب الجامعة ولكن الشيخ اعتذر في اللحظات الأخيرة, وحضرت من الجامعة بالزى الرياضي (الترنج) .. وفوجئت بالأخوة الذين يعرفونني يطلبون مني إلقاء الدرس - وما أصعب أن تكون بديلاً لخطيب مثل الشيخ محمد مختار - وهنا استحضرت درساً بعنوان :" كيف تصلح حالك " .. وقلت فيه : إن صلاح الحال بصلاح الوقت ، والوقت وقتان : وقت مضي تصلحه التوبة ، ووقت بقي تصلحه العزيمة .. والحمد لله يسر الله فيه .. وبعد انتهاء الدرس جاءني جمع من الأخوة - وكانوا لا يعرفونني - فقالوا لي : قلنا في البداية : ماذا يقول واحد يرتدي (الترنج) .. ولكن بعد أن تحدثت أثنوا علىّ خيراً.

وفي بداية الحبس دخلت سجن المرج في عين شمس - وهو قريب من سجن أبي زعبل - ونحن في الطريق إلي السجن حدث موقف طريف ونحن في عربة الترحيلات توقفت في الشارع فنظرت من النافذة متحدثاً إلي المارة في الشارع بصوت عالٍ وتعاطف الناس معنا وإذا بأحدهم يأتي إلينا بعلبتين سجائر فظللنا نضحك ورددناهم له.

9- حدثنا عن بعض رفقاء المحنة؟

- قد كان سجن المرج من أسوأ السجون في تلك الفترة, ولكنني صحبت فيه أثنين من أفضل الناس هما : الأخ محمد فهمي عطا ، والأخ : ناصر خالد .. وقد كان الأخ ناصر مميزاً عن باقي الأخوة ، فكان لا يضحك إلا مبتسماً وكان يصلي الفجر فيمكث يذكر الله حتى يصلي الضحى ثم يمسك مصحفه حتى صلاة الظهر ثم يقيل فيقوم يمسك مصحفه حتى العشاء يصل المغرب بينهما ثم ينام فيستيقظ من النوم في أي ساعة يقوم ليله حتى الفجر.

10- بعض المواقف التي أثرت في الشيخ محمد صلاح وتعلم منها دروساً إيمانية؟

- من أهم المواقف المؤثرة أنني نزلت إفراجاً ثم عدت إلي سجن أبي زعبل مرة أخري .. وكان اقترب وقت الامتحانات بالكلية فكنت من شدة سوء المعاملة في سجن أبي زعبل كثيراً ما أدعوا الله أن أنزل سجن المنيا لأداء الامتحانات وحتى أستريح من سجن أبي زعبل .. ثم راجعت نفسي فقلت : اختيار الله خير لك ، فكنت أدعو الله أن يقدر لي الخير حيث كان .. وجاءت أسماء الممتحنين لنزول سجن المنيا ولم يكن اسمي معهم فلم أحزن .. وبعدها بفترة قريبة جاء اسمي للترحيل لسجن استقبال طره .. وعاد الأخوة الذين نزلوا سجن المنيا إلي سجن أبي زعبل مرة أخري بعد انتهاء امتحاناتهم مباشرةً, وبقيت في سجن الاستقبال ستة أشهر كان أبو زعبل فيها من أسوأ السجون في المعاملة والتغذية وغيرها .. وكان هذا من ضمن المواقف التي وقفت عليها وهي أنك لا تختار لنفسك.

11- حدثنا عن رحلتك مع المرض؟

- بعد ترحيلي إلي الوادي دخلت عنبر( 7 ) بعدما استقبلونا استقبالاً شديداً, وكانت ملازمتي للشيخ حسام فاروق لفترة طويلة في غرفة واحده وهي (7ب) - وما أجملها من صحبه - .. وبدأت رحلتي مع المرض في سجن الوادي الجديد ، وانتقلت إلي مستشفي الوادي والتقيت فيها بالشيخ أحمد يوسف .. فوجدت رجلاً من أحسن الناس خلقاً وأرقهم قلباً وأكثر الناس أدباً مع شجاعة لا تباري مع الآخرين .. وكان رجلاً بمعني الكلمة, وكنت أنزل إلي العيادة وكان هناك أخوة موجودين من عنابر السجن فكنت أبتسم في وجوههم عندما يشاهدوني حتى لا يتألموا لما أنا عليه وحتى لا أكون عبئاً عليهم بالإضافة إلي المرض .

- وفي إحدي المرات قابلت اثنين من الأخوة فسألتهما الدعاء فقالا لي : إننا ندعو لك قبل أن نعرفك .. فقلت لهم : كيف ذلك ، فقالوا : من يوم كنا نراك تنزل إلي العيادة فنشاهدك تبتسم فتهون علينا المرض.. ثم رحلوني إلي مستشفي الليمان ، وهناك رأيت المعادن النفيسة للرجال فكان الأخوة يخدموننا في مطعمنا وملبسنا - رغم مرضهم - لكنهم كانوا أحسن حالاً منا ..وكان من أكثرهم في الخدمة أخ فاضل يدعي عبد الله حسام .. وللعلم كان نصرانياً فأسلم قبل دخوله المعتقل, وكان هو المسئول عن إعداد وتجهيز الأطعمة لكل الأخوة المرضي كل على حده, ومع ذلك كله بعد أن يظل معظم اليوم في المطبخ يغسل ملابس الأخوة المرضي بالشلل ثم باقي ليله يقيمه ولم أكن أعرف متى ينام.

12- ما الذي علمك المرض من الدروس؟

- للمرض دروس أخري غير دروس السجن ، فهو يعلمك الذلة والانكسار بين يدي الله سبحانه وتعالي .. ويقربك من الله خاصة وأنت وسط مرضي .. ولقد رأيت بأم عيني خيرة الشباب يموتون وكان أكثرهم فيّ أثراً الشيخ سيد الأسيوطي رحمه الله .. وكان أخر ما سمعته منه : "رضينا يا رب فارض عنا" .. وكان دائماً ما يقولها في صحته رحمه الله,

- و مما كان له أثر في نفسي كبير جداً : عنوان خطبة لأخ قريب مني جداً وهو : (أحوال السعداء في زمن الشدة والبلاء) .. ولمعرفتي بهذا الأخ استطعت أن أبني بناءاً لهذا العنوان يتحدث عن أثر الرضا واليقين والتوكل في إحداث السعادة وسط أشد المحن وأحلك الظروف فأعانني ذلك كثيراً في سجني ومرضي, ولكن الغريب على نفسي أنني وبعد مرور سنوات على مرضي وشدته علىّ لم أستطع استحضار تلك المعاني التي كنت أشعر بها من قبل لتحدث لي نفس الحالة من السعادة والرضا التي كنت أشعر بها في الزمن الأول, فوقفت مع نفسي أفتش عن الأسباب فوجدت قلة الإخوان جانب ، وتغير حالي جانب ، وتقصيري جانب أكبر .. وهنا أدركت قيمة الإخوان في إحداث القرب من الله ، وفي كونهم عونا على بلوغ السعادة في الدار الآخرة.

- وأقول لإخواني من كان له صحبة في الله فليعض عليهم بالنواجذ.

- وكل إنسان عليه أن يلزم نفسه بما ألزمه الله به.

- وعليك بصحبة الصالحين فإن لم يكن لك من الأفراد أحد فأستأنس بهم في كتبهم, وخير مؤنس كتاب الله العزيز الحميد.

- فالإيمان لا يذهب مره واحدة ولكن يذهب شيئاً فشيئاً .. فلا تنسونا من صالح دعائكم أن يعافيني الله ويصلح حالي ويحسن خاتمتي.

13- ما الذي تدعو به في صلاتك ومناجاتك يا شيخ محمد؟

- أقول : ( يا رب إن الناس قد زعموا أني لا أشفي من مرضي .. فاشفني يا رب ، فإنه لا يعجزك شيء ).

- وهنا توقفت كلمات الحوار عند عبرات حب ووفاء .. فاحتضنت الشيخ محمد صلاح ، وفي نفسي من الحب والإشفاق عليه شيء لا يعلمه إلا الله.. وقلت : إن أقل ما يجب له علينا من الحق أن ندعو له بظهر الغيب.. فهل من مجيب ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق